” مصيدة الزمن ” يوميات : أرق الصحراء / لسيف الرحبي

نشرت من قبل الكاتب العماني في

– قراءة نقدية –
د. سعيدة بنت خاطر الفارسي – شاعرة وناقدة عُمانية
 
اليوميات هي أن يقوم الكاتب بتسجيل الأحداث التي تمرُّ به في أيام معينة وهي غالبا ما تخضع لعملية انتقاء بمعنى أن يقوم الكاتب بتسجيل أحداث دون غيرها ، وقد تأخذ اليوميات شكل المذكرات وأوضح مثال على ذالك مذكرات الكاتب الفرنسي جان جاك روسو، وقد تكتب اليوميات بشكل تقريري أو بشكل فني , وهو النوع الذي يهمنا حيث يخضع النص للاختيار وفنية العرض وبراعة التحليل وترتيب الأحداث بحيث تعطي دلالات قابلة للتأويل ، وهذا ما فعله سيف الرحبي في يومياته مستخدما الكثير من تقنيات الرواية كالسرد ورسم الشخصيات والحوار وصناعة الأحداث ، وأهم ما يميز اليوميات طريقة التسجيل حيث يتحدد الزمان أي تاريخ الأفعال والأحداث سواء كتبت بشكل فني أو تقريري .
في يوميات الرحبي نجد ما في السيرة الذاتية من تشويق وإمتاع ، وفيها إيجابيات السيرة حيث يجد القارئ نفسه محبا للكاتب الذي سمح له أن يدخل إلى حياته ليشاركه تجربته بحلوها ومرّها ، مستفيدا من تجارب الكاتب – استفادة فنية ومعرفية – بالإضافة إلى الاستمتاع بسرد الأحداث وتعليقات الكاتب المشبعة بالمرح والمحملة بالسخرية اللاذعة أحيانا.
في أرق الصحراء حشد الرحبي كثير من الأحداث والشخصيات والتجارب الحياتية والإبداعية التي مرّ بها ، وفي هذا إثراء للقارئ وتلوين يغني العمل الفني .. لقد اعتاد سيف الرحبي عبر كتاباته الإبداعية المختلفة أن يحتفي بالمكان ، فالمكان يكاد أن يكون هو الشخصية الرئيسة في معظم كتاباته – ولعل حياة الكاتب وتنقلاته الكثيرة وعدم استقراره بمكان محدد هي التي أسست لهذا الاحتفاء .
المحتوى الدلالي :
تدور هذه اليوميات حول الإنسان المعاصر وأزمته الوجودية واغترابه وتوحده مع الكائنات الأخرى ضدّ الزمن الذي يهدد وجوده بالفناء والعدم .
وتقدم لنا هذه اليوميات وجبة دسمة من خبرات الكاتب الحياتية المتراكمة عبر فضاء مكاني وزماني وثقافي متنوع مستفيدا من تعدد الأماكن وتنوع الأصدقاء وغنى القراءات وتنوعها بين معاصرة وتراثية . إنها سياحة في فكر مفكر أديب ألبس السرد حلية الشعر وروح الشاعرية مع المحافظة على آليات السرد وفنيته
إن هذه اليوميات هي أحداث ثلاثية الأبعاد ، الشخصية الرئيسة فيها هو الكاتب الذي يمثل الكائن البشري أو جميع الكائنات الحية ، الإنسان الذي يقع بين مطرقة الزمان الفاعلة وسنديان المكان ” الأرض ” المتفرجة على ما يجري من تلك المطرقة الشرسة “الزمان” وما تفعله من أفاعيل (تغييرات ) في جميع الكائنات وحتى فيها ” المكان ” إن الإنسان الذي استطاع أن ينتصر بالتقدم التكنولوجي علي كثير من السلبيات وعلى المكان، لم يستطع أن ينتصر على شيء واحد يهدده منذ الأزل هو( الزمن ) . إنه لا حيلة له أمام هذا الشيء الخرافي العظيم ، بل أنه ألعوبة تقاذفه الأزمنة كيف شاءت منذ الميلاد إلى لحظة الموت… أزمنة لا يد له فيها على الإطلاق ومن ثم فإنه قد جاء إلى الدنيا ولم يخير وسيذهب منها فجأة أيضا بدون تخيير كما قال” الخيام “:-
لبستُ ثوب العيش لم أستشر
وحرتُ فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عنى ولم
أدرك لماذا جئت ! أين المفر؟!
والغرابة أن الإنسان الذي لبس ثوب الحياة بدون رغبته أواستشارته قد ارتضاه بعد ذلك ، بل قد راق له بعد أن ذاق متع الحياة وبهجتها وأصبحت مشكلته كيف يحافظ على تلك الحياة ، ومن ثم يدخل في صراع مع الزمن الذي لن يتركه يواصل التمتع بها ، فصار يصارع ضد المرض و ضد الضعف والوهن بل ضد الفناء والموات.. صار يبحث عن الخلود ومن ثم فأن أكبر مآسي الإنسان هو( الموت ) إنها أزمة الإنسان الوجودية منذ الأزل ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) يقول الرحبي :” ربما علينا أن نحشد ما نستطيع من وسائل المواجهة للاستبداد الزمني على مشاعرنا وأجسادنا ، وننعم بقسط من سلام الروح ، حتى ولو كانت له الضربة القاضية في النهاية . (ص112) وعندما تصفح أرقام تلفونات الأصدقاء وجد أن الكثير منهم قد فارق الحياة قال الكاتب :” أخذني الذهول … الحياة تأخذنا والموت ينجز مهامه الضارية ، هل يمكن الاتصال بهؤلاء الراحلين ؟ ” (ص90)
ولعل يأس الإنسان من حل مشكلة الموت الذي سينتصر عليه في النهاية لا محال هو الذي أدخله في دائرة الشعور بالاجدوى والعبثية يقول الكاتب مخاطبا صديقته:- ” الوحدة والشيخوخة مسألة مرعبه .. قالت : ” كله مثل بعضه”(ص92) .
إنه شعورالعدمية والاجدوى حيث يتساوى كل شيء طالما النهايات واحدة.
والكاتب هنا ليس متشائما بمقدار كونه واعيا ذلك الوعي المرعب – كما سماه ريلكه – ذلك الوعي الذي يدرك فيه الإنسان حقيقته الوجودية المؤلمة .
تلك الحقيقة التى جعلته يرى أن البشرية لاتختلف عن الذباب من حيث التفقيس والتناسل ، إذا لم تكن هناك قيم روحية وجمالية تنقذ ما تبقى من ماء الوجه المهدد بالنضوب . ويبقى السؤال الصعب هل استطاعت الحضارة المعاصرة أن تبعد عن الإنسان مخاوفه الوجودية ؟؟
يرى الكاتب أن نفايات الثقافة الغربية صُـدِّرت إلى الشرق ، فلوثتْ عالمه الروحاني ، وأصبح الشرق والغرب في حالة خراب وفراغ روحي مدمر ، ومن ثم فالخراب الإنساني عام لا مفرّ منه في كل مكان .
البناء الفني :
بكثير من الوعي بنى الرحبي يومياته وجعل المحتوى الدلالي ( الهلع من سطوة الزمن ) هو المسيطرعلى المضمون والشكل ، وهنا تتضح براعة الكاتب حيث يلتحم المحتوى الدلالي بالبناء العام ليخدم كل منهما الآخر،كما سنرى .
في أرق الصحراء مزاوجة بين المكان والزمان ، فالمكان (الصحراء) يواجهنا منذ العنوان مواجهة صدامية ، وبالرغم من هذا نرى أن مواجهة الزمان في هذا العمل الإبداعي أقوى ، فالعنوان ” أرق الصحراء” والأرق هو ضيف الليل الثقيل الذي لا يرحب به أحد ، الأرق زماني الإيحاء ، ” ليل ” وتحت العنوان الرئيسي تأتي مفردة ” يوميات ” واليوميات ذات ارتباط زماني ، ويبدأ الجزء الأول بعنوان ” الغبار الأرضي وذاك القادم من كواكب أخرى ” ويجسد العنوان رفض الكاتب لذلك الوجود الأرضي بوصفه قادما من كواكب أخرى.. لعله يتمنى أن لا ينتمي إلي الأرض . والعنوان مزاوجة أخرى بين المكان ” الأرض” والزمان القادم من كواكب أخرى ” أى أزمنة أخرى ويطغى الزمان طغيانا جارفا عبر البناء الفني ، ففي استهلالية الجزء الأول يقول الكاتب :” في أي يوم نحن الآن ؟ الأربعاء ، الخميس ، الأحد ؟ في أي ساعة وزمن وتاريخ ؟ علامات الأزمنة …. الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطرقات والشوارع في الأزقة والأودية.. الزمن المتدفق والمتجمد كصخور خزافية جاثمة على صدر الكائن وهو يختنق بأنينه اليائس تحت بطشها المطلق , في أي يوم نحن الآن في أي ساعة وتاريخ ؟ (ص9) .
ونشعر بأن الكاتب والمكان في حالة حصار شديد ، ( مصيدة ) لا يمكن التغلب عليها.. إنه في مصيدة الزمن ، لكنه لا يفعل شيئا للخروج من هذه المصيدة, فقد أنبأته تجاربه الحياتية بأنه مهزوم أمام سطوة هذا المارد ، ترى هل يأس الإنسان من محاولة التملص من سطوة الزمن ؟
يقول الكاتب أجل ، بل أنه يرى أن لا فائدة حتى من المحاولة , ولذا يكرر في ختام الكتاب (ص138) نفس الفقرة ذات التساؤلات الحيرى التي افتتح بها الكتاب( ص9) وكأنه بدأ النص بتعويذة الزمن ثم ختم بها ليوحي بمدى قبضة الزمن علينا ، وكأنه السؤال ورد صداه وكأن هذه التساؤلات تطبق على الكِتاب من البدء إلى الختام كما تطبق على الكائن البشري مما جعله يرى عدم جدوى التساؤلات ( في أي يوم نحن الآن في أي ساعة وتاريخ ؟ ) ويبدو هذا التساؤل كأنه الوجع الأكبر للإنسان عامة وللكاتب خاصة إذ لا يهم في أي يوم طالما النهايات محسومة لصالح الزمن وهزيمة كل الكائنات، ومع أن الكاتب هو الشخصية الرئيسة في اليوميات كما هو في السيرة الذاتية إلا أن الزمان يكاد أن يكون الشخصية المحورية الحقيقية في هذه الأحداث .
وحتي في الجزء الثالث والرابع الخاص بالأمكنة بيروت والقاهرة يسيطر الزمن سيطرة مرعبة من داخل المكان ويفرد أجنحته فيقسم الكاتب سرد الحدث المكاني إلى يوميات (الأحد الأثنين الثلاثاء …الخ) ويسجل من خلال هذه اليوميات رعبه من أفاعيل الزمن .
أما النصوص الواردة في آخر الكتاب فهي تكريس لكل الدلالات التي طوّف بها الكاتب (المكان –الزمان- رغبات الإنسان ، هلعه المستمرمن سيرورته )
ختاما : (أرق الصحراء) كتاب علينا أن نحتفي به لمستواه الفني ولسبقه الريادي في كتابة مثل هذا النوع وبهذه السمات الفنية الحداثية في الأدب العماني.

0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *