الشاعر الشيخ عبد الله بن علي الخليلي
يعد الشاعر العماني الكبير عبدالله بن علي الخليلي شيخ القصيدة العمانية في النصف الثاني من القرن العشرين ، فقد كان شعره ينم عن تمكن في سبك الألفاظ وتصوير المعاني ، حتى أنه سمي بأمير البيان ، ولا إطراء ولا مجاملة في ذلك فالمتتبع لشعره سيراها حقيقة جليّة أمام ناظريه ، وليس الشعر النتاج الأدبي الوحيد له فقد كتب مقامات وقصص تبين الطبقة المتقدمة التي وصل إليها عطاؤه الأدبي الغزير ، وكما قال الأديب العماني أحمد الفلاحي فيه : (لو ظهر أمثال هؤلاء في دمشق أو القاهرة أو بيروت لكانوا ملأ الدنيا العربية … لكن الحيز الجغرافي العماني هو الذي دسّ هؤلاء من أن يعرفوا).
نبذة تاريخية
ينتمي الشيخ الشاعر عبدالله بن علي بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي لسلالة عمانية عريقة عرفت بالعلم والأدب ؛ لذا لقبه بعض الكتّاب بعميد شجرة الأنساب الشعرية ، فيمتد نسبه إلى إمام عمان الخليل بن شاذان (ت1034م) ، وقد سكن أجداده بهلى وإزكي فيما مضى وذلك قبل أن ينتقلوا للإقامة في بوشر ، فقد ولد في بوشر جده الثاني الشيخ سعيد بن خلفان (ت1871م) الذي عُرف بأنه شاعر ومحقق في المسائل وتأصيلها ، سكن الشيخ سعيد بعدها سمائل حيث ولد فيها ابنه عبدالله (ت1914م) ، وقد كان هو الآخر شاعرًا كبيرًا له ديوان ضخم ، وهو والد الإمام محمد (ت1954م) والشيخ علي(ت1943م) ، وكان الأخير واليًا على بوشر إلى حين وفاته وهو والد الشيخ الشاعر.
ولادته ونشأته
ولد الشيخ عبدالله في حارة الحباس من ولاية سمائل بالمنطقة الداخلية يوم 29 أغسطس من عام 1922م ، وترعرع هناك في البيت المعروف ببيت السُبْحِيَّة ، وقد بدأ تعليمه المبكر في سمائل حيث درس القرآن الكريم على يد الأستاذ زاهر بن مسعود الرحبي، وقد تنقل بين مسقط رأسه سمائل ومدينة نزوى العريقة لتلقي مــا يخص الدين الإسلامي واللغة العربية ، حتى أنه أكمل حفظ القرآن الكريم ، وبجانب أنه استقى العلم من عمه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي ، فقد جالس عددًا كبيرًا من جهابذة علماء عُمان ومنهم المشايخ خلفان بن جميل السيابي ، وحميد بن عبيد السليمي ، وحمدان بن يوسف اليوسفي ، وقد جالس الشيخ الكبير سالم بن حمود السيابي وتتلمذ على يديه بطلب من والده الشيخ علي بن عبدالله عام 1931م ، وقد شهد له فيما بعد فقال : ” إنه أخذ في مرافق شعره مأخذا لم يُسبق إليه ، ونهج منهجًا لم يُتقدّم عليه ” ، ولاشك أن مسقط رأسه سمائل يعود لها الفضل في غرس السليقة الشعرية لديه ، وقدح موهبته المتوقدة ، فقد كان يحضر فيها جلسة يتداول فيها الجدل الأدبي ، إضافة إلى المطارحات الشعرية التي كان يستهلها الشيخ علي بن منصور الشامسي بقصائد على اللحن السموئلي المُطرب ، كما كان يحضرها أخوه الشيخ سعود بن علي في بعض الأحيان ، فمما لاشك فيه أن هذه البيئة الأدبية أسهمت بشكل كبير للرقي بذائقته الشعرية ، وقد لوحظ عليه منذ طفولته الميل للجانب الأدبي.
الخليلي … والشعر
كانت الموهبة الشعرية للشيخ الشاعر عبدالله بن علي الخليلي قوية منذ بدايتها ، ولنتعرف بشكل أوسع عن المراحل الأولى له في الشعر نعود إلى اللقاء الذي أجري معه عام 1977م والذي قال فيه :”أول قصيدة نظمتها كنت في رحلة عند عمي الإمام الخليلي –رحمه الله- وقام الطلاب المتعلمين ليعدوا رحلة شعرية ، وطلبوا مني المشاركة ، فبدأت بمشاركة بأربعة أبيات ، أحفظ منها بيت واحد وذلك في وصف الناقة ، أقول فيها :
تحركها بالأريحية همة= فتعدوا بنا كالرائح المتحلب
لا أحفظ غيره ، فأخذ مني القصيدة سعود بن حميد أبوالوليد –الذي كان قاضيًا على المضيبي- وأراها الإمام واستحسنوها ، ولكن هذه كانت شبه لطمة أثرت في قلبي حتى أني لم أقدر أن أقول الشعر لمدة ولفترة طويلة ، ثم بدأت الشعر بقصيدة اخرى في المرحلة الثانية ، قصيدة رائية أقول فيها :
“فقمت ولي من نير العقل صالح=وعدت وعيني ما تعاين قيصرا
أروم بنفسي همة لا يرومها = عداي ولو كانوا على الموت أصبرا”
نمى من بعد ذلك حب الخليلي للشعر وشغفه به ، فلا يستغرب من يراه يقوم فجأة عن الطعام فلا شك أنه قام لكتابة أبيات خطرت لحظتها عليه ، كما أن الشعر قد يأتيه وهو نائم ؛ فينهض من نومه ليبحث عن ورقة وقلم ليكتب ما تذكره ، فكان يحرص قدر الإمكان على مصاحبة الورقة والقلم ؛ فوحي الشعر قد يطرق بابه في أي لحظة ، وقد طرق معظم أبواب الشعر القديمة منها والحديثة ، و تجسدت نزعنه الكلاسيكية في دوواينه وحي العبقرية ذي 500 صفحة تقريبًا وديوان فارس الضاد والخيال الزاخر وغيرها من القصائد المتفرقة ، ومن فنون وأغراض الشعر القديمة التي كتب فيها :
المدائح النبوية : تغنى الشعراء المسلمون منذ قرون بحب النبي صلى الله عليه وسلم ، فالخليلي ليس بدعًا في ذلك وقد قال في قصيدته “مجلى الأنوار” :
آي حق بها استنارت ذكاء=رسمتها الأنوار أنّى تشاء
في صحاف من الهداية والرشـ=ـد عليها من الضياء لألاء
يا رسول الهدى لقد جئت بالرحمـ=ـة والكون كلّه ضوضاء
الوصف : نخص هنا وصفه للأماكن التي زارها ، فمن المعلوم أنه زار عددًا من الدول العربية منها مصر وتونس وسوريا وزار كذلك دولا أوروبية كفرنسا التي قال فيها في قصيدة إيقاعية:
إيه أرياف فرنسا ومياه الشاطئين = بلغي عني سلامًا كل حلو المقلتين
جاذبيني يا فرنسا حركات القامتين = وذريني من وعود بين نكباء وغين
الوطنيّات : لقد كتب الشاعر الكبير في وطنه الدقيق سمائل ، وفي وطنه الصغير عمان كقصيدتي “عمان في أحسن سلوك” و “نداء الحياة” ، وله ملحمة عمان في سجل الدهر التي شملت أهم أحداث التاريخ العماني في 300 بيت وقد قال فيها :
واستوى قابوس في الحكم على = عدة والنصر للفتح المبينِ
ومضى يجمع ما شتته=ذلك الحكم على مر السنينِ
فبناها دولة يافعة=نفخ العصر بها روح الجلينِ
ومما لا شك فيه أن الانتماء الوطني لدى الخليلي تعدى حدود وطنه الصغير عُمان ، فتعداها لقوميته العربية وللدائرتين الإسلامية والإنسانية ، فقد تناول قضايا تحمل الهم العربي ومنها قضية فلسطين ومنها الثورات المصرية والجزائرية واليمنية والعراقية ، واستقلال المغرب ، ونضال تونس وليبيا ، العدوان الثلاثي على مصر … الخ ، ومن ما قال في ذلك:
مالي أرى العرب العرباء في هرج=خلف الشقاق شتاتًا في الإرداتِ
كأنها تحت أحقاد علقن بها=غيم عفا تحت هبات عقيماتِ
يا قوم حتى ما يهوى في الحضيض بكم=رأي شتات لأعداء غير أشتاتِ
الرثاء : من أجمل الأبيات التي كتبها في الرثاء كانت في رثاء عمه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي الذي توفي عام 1954م ، فيُذكر أنه رثاه في قصيدتين هما : الرثاء الباكي والموقف الرهيب ، فيقول في الأخيرة (من أبيات متفرقة منها) :
سلوا نكبات الدهر هل بتن ليلة =على ترة إلا وأصبحن طلقّا
أعزريل ما أبقيت بعد محمد=لموهبة تبقى وشعواء تتقى
هو الدهر لايبقي مقيماً على الوفا=ولا غادرا بحتًا ولا متملقا
المراسلات : وقد كان يتخذ من الشعر وسيلة لمراسلة العلماء والشعراء ، وقد راسل عددًا من الأعلام العرب كعز الدين التنوخي ، وله ديوان “بين الفقه والأدب” يحوي قصائد فيها أسئلة وأجوبة بين الشاعر وغيره ، ومن قصائده سؤالاً للشيخ حمد السليمي الذي بادره بالجواب بقصيدة تجاري سؤاله ، وقصيدة هبة العليم التي قرّض فيها كتبًا أربعة لشيخه خلفان بن جميل السيابي وهي سلك الدر ، وفصول الأصول ، وبهجة المجالس ، وجلاء العمى فقال :
خلفان يا علم الشريعة والهدى=نور الوجود إذا جلت ظلماؤهُ
يا من تجلى (سلكه) و(فصوله)=نورًا و(بهجته) ولاح جلاؤهُ
إني لأعرف عجز نفسي دون ما=تقريضها لو أنني أتّاؤهُ
الغزل : ومن قصائده فيه : قصيدة صوتية ألقاه بنفسه باللحن السمائلي وهي قافيّة قال في مطلعها :
قفيني على زهرة الزنبق = وهزي كياني ولا تشفقي
وبوحي بحبك بين الورى=ليدري السعيد به والشقي
وهيا بنا نقطع الروضتين = إلى الشاطئين إلى الزورقِ
وطرقه لأغراض الشعر القديم لم يجعله متعصّبا ضد الشعر الحر فقد قال عنه :”إذا كان الشعر الحر متقيدًا بالقافية ، ومتقيدًا بالتفعيلة .. فعندي لا بأس به” ، وكان ديوانه المعروف بوحي العبقرية على هذا النوع من الشعر ، ومن قصائده في الشعر الحر:
أضاعني هزلي فماذا أعملُ ،،
أضعت قومي وهم لي موئلُ ،،
وعشت في غيبوبة أعللُ ،،
أعلل النفس المنى … هيهات لا تعلُّلُ ،،
كما أن عبدالله الخليلي يعد رائد الشعر المسرحي في عمان فله مسرحية “جذيمة والملك” ، وكتب كذلك الشعر القصصي في ديوانه “بين الحقيقة والخيال”.
الخليلي … وفنون الأدب الأخرى
من الجميل أن نتاج الخليلي الأدبي لم يقتصر على الشعر ، بل كتب في مجال المقامات والقصة القصيرة ، وله مخطوط سجلات الأدب جمع فيه المقامات والقصص القصيرة :
المقامات : ومنها: النزوية ، والتساؤلية ، واللغوية ، والجعلانية ،والسمائلية ، والسمدية ،، وكما كان عيسى بن هشام راويًا في مقامات الهمذاني ، والحارث بن همام عند الحريري ، فقد اختار الخليلي الشاري بن قحطان كراوٍ لمقاماته ، وكمثال جاء في مطلع مقامته النزوية : “حدثني أبوالصلت الشاري بن قحطان ، وكان مفوّهًا معسول اللسان ، قال : خرجت من سمائل ضحوة النهار ، أقطع الطرق وأجوب القفار ، وكانت ركوبتي أنيقة المظهر ، متينة المخبر ، تسبق الطير ولا تكل من السير” .
القصص: نذكر منها : همسات الحب ، الجمال المتعادل وله قصة طويلة تدعى الأسرة الكادحة.
وفاته
أصيب الشيخ عبدالله بن علي الخليلي عام 1982م بالشلل الرعاش ، أعقب ذلك حالة من العزلة عاشها خلال 18عامًا القادمة ، حيث قل اختلاطه بالناس وعلى الجانب الآخر ففي هذه الفترة زاد نتاجه الأدبي ، وفي أواخر حياته اشتهر بالزهد في أشعاره ، وقد شهد يوم 30 من يوليو 2000م أفول نجمه ، بعد أن ساهم في إعادة الرونق الجميل للشعر العماني بل العربي ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
إعداد / محمود الرواحي
@mahmoodrawahi
0 تعليق