أبونواس.. حداثة بمقاس الحزن

نشرت من قبل الكاتب العماني في

يحيى عبدالهادي العبد اللطيف – ناقد سعوديّ

الحسن بن هانئ الشهير بأبي نؤاس من شعراء العصر العباسي، حياته مجموعة من المفارقات صنعت داخله روح التمرد والرغبة الجامحة في الانفلات من أعراف المجتمع، حين تقرأ سيرته تستطيع أن تفهم شيئا من جو التقلبات التي مر بها الشاعر.

تولد من أب وأم فارسيان من موالي قبيلة عربية، توفي الأب وهو في السادسة، لم تلبث أمه أن تزوجت برجل آخر، كانت طفولته جادة جدا فهو في نهاره يتقلب في حلقات المساجد يقتبس حكايات العرب وأشعارهم وملحهم بل ويضم إليهما الفقه والتفسير يقول بعض معاصريه: أنه كان عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا» وفي الليل ينطوي هذا الفتى في دكان عطار!

لكنه انقلب على تلك الطفولة، وغير فلسفته في الحياة، فانعكس هذا الانقلاب في تعامله مع النص الشعري، والنظرة إلى موروث القدماء وبناء القصيدة.

لقد اختار الحسن بن هانئ أن ينأ بنفسه عن السجال العقائدي في زمنه وهو المتكلم المثقف، لقد ذهب قصيا في إحدى زوايا حانته يراقب هذا الصراع بأنفة شعرية على كرسي الخمارة ممسكاً بكأسه محدثاً سامره:

نـبـهـتـه والـلـيــل مـلـتـبــس بـــــه
وأزحــت عـنـه نـعـاسـه فـانـزاحـا

قال: ابغني المصباح فلت له: اتئد
حسبـي وحسبـك ضؤهـا مصبـاحـا

إن الخمرة في شعر أبي نؤاس ليست مشروبا مسكرا فقط بل هي حالة فكرية تدعو للتعامل مع الحياة بمنطق ترفي، يقول محقق ديوانه أحمد الغزالي: «لكنه من فرط شغفه بها وتقديسه لها انتقل بها من «الحسية» إلى «المعنوية» فجعلها فكرة شائعة تحس بها الروح ولاتدرك لها كنها»..

ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن الشعر الصوفي استخدم مفردة الخمرة بدلالتها الرمزية لا بمعناها الحسي وهذا ماتلمحه في شعر ابن الفارض وغيره.

لكن النؤاسي الماجن وإن كان ترك الخوض في مسائل الكلام والخلاف، إلا أنه لم يترك مشاغبة علماء ومنظري الاراء الكلامية كمعاوية بن حديج وغيرهم لكنها لاتعدو كونها حالة استفزاز لا أكثر، ينقل موقف أنه في حالة سكر مع سماره تذاكروا الجنة ونعيمها وكان ساكتاً ثم قال:

ياناظـرا فـي الـديـن مـا الأمـرُ
لا قــــــدرٌ صــــــح ولاجـــبـــرُ

ماصح عندي من جميع الذي
يـذكــر إلا الـمــوت والـقـبـر ُ

فامتعضوا وغضبوا منه ووبخوه، فقال: ويلكم إني لأعلم ماتقولون، ولكن المجون يفرط علي، وأرجو أن يتوب فيرحمني الله تعالى ثم قال:

أيـــة نـــار قـــدح الـقــادح
وأي حـــد بــلــغ الــمــازح

مـن اتقـى الله فـذاك الــذي
سيق إليـه المتجـر الرابـح

فاغد فما في الدين أغلوطة
ورح بمـا أنــت لــه رائــح

يعلق الدكتور شوقي ضيف على ظاهرة الإنكار العقائدي لأبي نواس يقول: «وقد يتمادى في ذلك حتى ليعلن دهريته وأنه لايؤمن ببعث ولاحساب ولا بجنة ولا نار، وهو في ذلك إنما يتماجن ويتعابث»..

وفي سياق تمرد أبي نؤاس الشعري، فالرجل لم يكتفي بالخروج على موروث القصيدة بل إلى نسف العقلية البدوية والسخرية منها، اكتشف هذا بنفسك:

عاج الشقـي علـى ربـع يسائلـه
وعجت أسـأل عـن خمـارة البلـد

قالـوا: ذكـرت الـحـي مــن أســد
لا در درك قـلـي مــن بـنـو أســـد

ومن تميم ومن قيس وإخواتهـم
ليس الأعاريب عند الله من أحـد

كم بين من يشتري خمرا يلذ بها
وبيـن بـاك علـى نـؤي ومنتـضـد

إن هذه الأبيات تكشف عقد راسخة في أعماق الشاعر، فهو يضع المتلقي بين خيارين بين المحافظة والتقليد إنه لايسخر هنا من بناء القصيدة بل يمتد ذلك ليتهكم على العقلية البدوية وينتقم من الاعتزاز العربي بالذات، حتى لقد اتهم بالشعوبية:

فقلت لـه ما الاسـم قـال سمـؤال
على أنني أكنى بعمرو ولاعمرا

ومــا شرفـتـنـي كـنـيـة عـربـيـة
ولا أكسبتنـي لا سنـاء ولا فخـرا

إن الإنسان المحتقر إجتماعياً يجد نفسه مدفوعا لينفس عن هذا الكبت بالمروق عن سلطة المجتمع التي لم تعد تهمه.

لكن الجميل في تجربة الحسن بن هاني أن شعره مساحة لتلاقي الأخر فلم ينكفأ في دائرة التصنيف الطائفي بل جعل ذاته متاحة للجميع:

تــمـــر فأسـتـحـيـيـك أن أتـكـلــمــا
ويثنيك زهو الحسن عن أن تسلما

ويهـتـز فــي ثـوبـيـك كـــل عـشـيـة
قضيـب مـن الريحـان شـب منعـمـا

بحسبك أن الجسم قـد شفـه الضنـا
وأن جفونـي فيـك قــد ذرفــت دمــا

ألـيـس عظيـمـا عـنـد كـــل مـوحــد
غــزال مسيحـيـى يـعــذب مسـلـمـا

إن النؤاسي يعالج موضوع الآخر المخالف بأسلوب شعري ظريف والظرافة وخفة الروح هي السمة الأكبر في شعره إنه يعلمك كيف تحول أحزانك لأفراح.

ويبقى موضوع الحب إن أبانواس تعرض لصدمتين في الأنثى الأولى في أمه والثانية من الجارية التي أحبها وتدعى «جنان» وخلق قصص وأشعارا عن علاقتهما لكنه حب من طرف واحد ولما نمى لسماعها شغف ابن هاني بها قالت: «واضيعتاه! لم يبقى لي غيرأن أحب هذا الكلب!» ولاأعلم هل كانت تدري تلك الجارية أن هذا الكلب هو من سيحفظ اسمها على مر الأجيال.

أتانـي عـنـك سـبـك لــي فسـبـي
أليس جرى بفيك اسمي فحسبي

وقـولـي مـابـدا لــك أن تـقـولـي
فـــمــــاذا كـــلــــه إلا لــحــبـــي

لقد أحس أبونواس بالاإنتماء وأصبح حبه مجرد تمرد مجرد هروب مجرد تسكين حزن وربما انتقام فأحب الغلمان وشغف بهم.

وفي النهاية يقرأ الشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور تجربة أبي نواس: «لا أعرف في تاريخ الشعر العربي شاعراً فرح بالحياة كأبي نواس، لكن هذا الفرح لايفرحني، بل إني أحس به شاعرا دفع به إلى مأزق، لقد درس وتفلسف ولكنه وجد أن كل قراءاته وفلسفته لاتساوي شيئا في مقياس العصر وأن جلفاً من أهل النسب أو الثروة ليستطيع أن يدرك في عصره مالم يدركه أستاذه واصل بن عطاء فتبدل واستهتر، ما أنه لم يستطع أن ينجو من شكه الميتافيزيقي، الذي لايستطيع التعبير عنه فآثر الانتحار الأخلاقي».


0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *