لا أراني !
لا يوجد أحد ، لا يوجد أحد .
هذه الصرخة التي علقت في فمها كلعنة ولم تبارحه .
ظلت تدور في حلقة لا تنتهي من النحيب ، كان جل أمنياتها أن ترى نفسها لكنها تعجز ؛ فكلما وقفت قبالة المرآة لا تجد شيئاً .
حاولت أن تستعيد عينيها لون شعرها ، أو حتى أنفها الذي تذكرت صدفة أنها كانت تكره شكله .
وتعود في كل غارة تشنها على ذاكرتها المعطوبة خالية الوفاض .
حملها ذلك بأيدٍ باردة إلى الجنون ، فقدت توازيها مع خطوط الحياة فاقتطعت عقلها .
وقفت شاخصة ، تنظر فيما حولها علها تُرى ، فيرتل الوجع بها كتابه المقدس محجوراً بين كلمتين ( لا أحد )
الأشياء تسقط منها في ثقب كبير لا يعيد ما يأخذ . بدأت تتعاطى ببلادة مع حالها ، لم تأبه كثيراً بعد أفول شمس عقلها .
غدت الجدران وهذه الغرفة البائسة والباب الباهت لونه متناهية التشابه حداً لم يعد يجدي معه مقت ولا اشمئزاز . فتماهت معه
وصارت منه و به .
ما تبقى لها سوى صوت خطواتها يشعرها أنها على قيد الحياة ، فالموتى لا يحدثون جلبة ؛ إنهم هادئون حيث يسيرون .
سألت نفسها :
– ماذا لو كان الموتى يرقصون ؟ ترى كيف يكون صوت أقدامهم ؟ تراني معهم ولكني لا أراهم كما لا أراني !
حركت ساقيها وأصخت سمعها لوقع النغم على الأرض ، وسارت برتابة كأنفاس نائم .
لكنها عادت وحركتهما كثيراً على غير هدى لاتجاه .
فجأة ، علق في سمعها صوت آخر ، إنها ضحكة برية بريئة ، شنفت أذنيها وبدأت تعب من انسكاب هذه الضحكة العذبة
ورأت طفلة !
عيناها صافيتان ككوثر وفي فمها موسم توت شهي وبسمة .
لم تدرك في خضم بهائها أنها صارت ترى ، عينا الطفلة معلقتان فيما تظنه الفراغ الذي يحبسها . لكنهما كانتا تبدوان أكثر من ذلك ،
إنهما تنظران إليها وكأنها هنا ، فلم تستطع حجب شعور يشبه الدهشة
سألت
– أراكِ ؟
وبرقة سماوية وهبتها جواباً كقدر جميل يهطل ممطراً
– وأنا كذلك .
أرادت أن تبكي لأنها تحسست ذاتها ، شيء ما مر بها كطوفان أشعرها بحقيقة نجاتها .
توقفت عن الدوران في الفراغ محاولة تصحيح اعوجاج وباحت بأمنيتها راجية تحقيقاً .
– أنا لا أراني ، أرجوك قولي لي كيف أبدو ؟
– جميلة و …
جلست القرفصاء تبحث عن جملة تلي هذا الواو المخيف كمقصلة إعدام . وأطلقت هاء ممدودة تستحثها على الإكمال
– لكن قلبك مغطى بالران، إنه متسخ ، والأدران عالقة بلبك .
ومن بين الغصات استلت سؤالها
– كيف أنجو ؟
– في حقيبتي رداء أبيض وسحابة حبلى بالماء، هدية الرب إلى كل المعدمين في الأرض .
– أيسعني ؟
– يسع قلبك المؤمن .
طفقت تخصف منه وتغطي بؤسها المكشوف ، وتعصر السحاب ليطهرها فأشرقت .
بدأ الران ينجلي تحت ضوء شمسها . وتساقطت من جسدها جثث نافقة فتعرفتها واحدة واحدة .
– إنها خيباتي ، لم يغب منها أحد .!
– هاك مرآة ، لعلك أبصرت الآن .
رأت نفسها ، فضج قلبها بالفرح وتفجرت
– أنا هنا .. أنا هنا ..
– كوني على حذر ؛ هم يختفون في كل مكان لا تدركه بصيرتك النقية . لكنهم يقتاتون على قلبك المخضب بالنقاء .
لأنهم يرتدون الشيطان الذي لا ترينه وأنت محمولة على أكف الله والنور الذي ثقب عينيك فصرت تمشين بالهدى دون أن تحملي مشقة السؤال .:
يا ألله .. لم لا أراهم . وأراك ..؟
تغنت بذاتها طرباً وأخذتها النشوة نحو أفق ،
استدارت لتشكر تلك الطفلة التي زملتها بالأبيض ولم تر سوى ذيل اللام والذي كان يعرج به سريعاً نحو السماء ألف وميم .
0 تعليق