خصائص لغة التعبير عن التجليات السياسية في الشعر العماني

نشرت من قبل الكاتب العماني في

إسحاق الخنجري – شاعر وناقد عماني

مبتدأ:

هناك احتدام وتشاكس مستمر بين الكائن والمكان ، الكائن بوصفه فاعل الحدث ومحرك الأثر ، والمكان باعتباره مفعول الفعل ومرايا التفاعل بين الأشياء ؛ فكلما كان الكائن حاضرا بتحولاته وظواهره الخلاقة ، كان المكان أكثر انفتاحا وانسجاما مع الأحداث العالمية ، يصبح الكائن عاملا فاعلا والمكان حيويا ، مكتظا بالصور الروحية التي تنبع من الشعور الخالص اتجاه الكون وجمالياته ، يكونان صورة واحدة ، صورة التجربة المثلى ، الماثلة في ديمومة الرؤى الفكرية .

والذي ضاعف الصراع بين الكائن والمكان ، اللغة من خلال ما تقدمه من فضاءات ديناميكية بين الواقع والرؤيا ، الحاضر والغائب ، الجسد والروح ، أسهمت كثيرا في تغيير ملامح التصورات البصرية للموجودات ، المعتمدة على النظر الوصفي ، البعيدة عن المناخات المتخيلة ، اللغة هي القدرة الفعلية لتفعيل مشاهد القبول أو الرفض ، قبول ما هو جوهري وفاتن , ينتج عنها أحداث ذات دلالات فاضلة , ورفض ما هو معتم وشاحب خارج الزمن ، لا يضيف سوى أوصاف خاوية أو باهتة .

وحين تكون اللغة شعرية ، يكون وصف الواقع ممتزجا بحالات مختلفة من التعبير ، نظرا لما يصاحبها من ثنائيات متشابكة وعلاقات متداخلة مع بعضها البعض فأحيانا نجد الهمس إشارة إلى حالة عاصفة من الصراخ ، وتارة نجد الهدير إيحاء للصمت والغياب .

ذلك لأن الموقف الشعري ليس مجرد ملمح عابر أو انخطافة سريعة ؛ بل معارك جارحة بين الحضور واللاحضور ، بين علامات الخصب والجمال وعلامات الجدب والفراغ ، “ولكي يكون العمل الشعري كله علاقات صورية كما يقول هربرت ريد ، يجب على الشاعر أن يؤسس بنية إيجابية مركبة تستمد عناصر تصويريتها من قوة التوهج الانفعالي ، عبر تحطيم علاقات المادة المنظورة وإقامة علاقات جديدة على وفق رؤيا الشاعر ، من خلال استخدام كل الحواس دون الوقوف على حاسة البصر وحدها”(1)

ولعل الشعر السياسي ، يمثل النوع الأكثر قربا من عوالم التضاد والصراع بين الحواس ، لكونه يرتكز على عمق المشهد الشعري والإنساني ، الحفر في أعماق اللغة والحياة ، امتزاج الذات بالذوات ، الأنا بالآخر ، الصوت الأحادي بالكيان الجمعي ، إنه النضال بين هنا وهناك ، هنا مدى شعور الشاعر بكل تفاصيل الصور اليومية وهناك مرآة التعايش الكامنة في حرية التعبير والتعاملات الروحية الصافية .

هكذا يرتبط الشاعر السياسي ارتباطا وثيقا بكل مواقف التحدي أمامه ، تحديات النفس والوطن والعالم , يظل مكافحا طوال حياته , لا يستسلم لخرائب الفقد والنقصان ، يحاول أن يكون القدسي في كل ما يتقفاه .

وعندما نستقرئ لغة الشعر السياسي العماني تخصيصا للبحث , نرى أنها تجلت في ثلاثة محاور :

1- التعبير السياسي وخطاب الواقع المباشر .

2- الحلم وشبكة التجلي السياسي .

3- الضمير السياسي وقلق الأنا المنكسرة .

أولا : التعبير السياسي وخطاب الوجود المباشر :

في هذا المحور, تكون اللغة الشعرية عبارة عن قناة اتصال بين طرفين ، الأحداث ؛ الصور الواقعية المرئية والأشخاص الذين لا يعبرون عن عواطفهم باللغة ، حيث يقوم الشاعر برصد ما يراه من منجزات وآثار ، شكلت له مشهدا مشرقا ، يتباهى به ، فينقله على هيئة رسائل احتفائية ، أو ملمحا كامدا ، صلبا ، فيصف للجميع وقائع الخراب والدمار ؛ علامات الخيبة المضنية .

وهنا يغدو الشاعر وسيطا بين حاضرين ؛ حاضر الرئاسة الماثل في أفعال السلطة , وفلسفة ممارستها في إحداث أثر الحياة في المكان وحاضر الشعب ؛ الصوت الآخر في مجريات الحدث ؛ هذه الوساطة جعلت الشاعر يقع في شباك اللغة الخطابية المعبرة عن حالات وصفية مقصودة ، أي وجود تحديد في مجال الرسالة الشعرية وتخصيص واضح لطرفي الصورة ، الفاعل والمتلقي ، الثابت والمتحرك .

لنرى المعنى السياسي المباشر ، فيما كتبه ناصر المعولي :

شرفت عمان وزاحمت كل القرى

بفخارها إذ فضلها بلغ الذرى

سعدت عمان بدعوة نبوية

بركاتها تنهل صوبا ممطرا

أعمان لا زال العلى حول المدى

تاجا لرأسك ما الموحد كبرا

أعمان أصبح فيك أشرف قائد

للخير لا يرضى الإهانة متجرا

ملك تتوج بالمهابة والعلا

والفضل والشرف الذي بلغ الذرى

قابوس من جمع المكارم كلها

شرفا وساد أولى المفاخر مفخرا

قابوس من أحيا الوجود بنفحة

في روح مكرمة وجود فجرا…….(2)

نلاحظ أن خاصية الدلالة المباشرة , امتدت منذ بداية المقطع إلى آخره ، فلا يوجد انفتاح رؤيوي في الصورة الشعرية ، قدر وجود تكريس عميق في التعبير عن الشعور الفاتن تجاه البلد و القائد .

لم تكن هناك بيئة خصبة تعبر عن كنايات مختلفة من الرؤى ، بين ثنائية الأثر الحقيقي للفعل ، السلطة والمجتمع . لقد هيمنت لغة الخطاب بشكل لافت ، مما جعل النظر إلى مثل هذه النصوص يتمركز حول إشارة واحدة وهي التوهج الواقعي المحدد ، على اعتبار أن الشاعر يحدد عناصر وأطراف قصيدته مسبقا ، دون أن يترك فرصة للقصيدة أن تغريه بفتنتها ، ومن هنا جاءت المباشرة السياسية .

لقد رأينا الموقف الحاسم نحو البلد “عمان” ، والملك الحاكم “قابوس” ، موقف التأييد المكثف بجماليات الولاء ، الذي يشير إلى وجود معيشة هانئة ، ينعم خلالها المجتمع بأشكال مختلفة من علامات الفرح والبهجة المتمثلة في أيقونتين / الوطن والسلطان .

الأيقونة الأولى : صورة الرخاء البارزة في البياض الكامل للعيش ، الممارسة الحرة التي يحلم بها الكائن ، ونستشفها من دلالات الصور .

– شرفت عمان : إشارة لمنزلة شامخة عظيمة .

– زاحمت كل القرى بفخارها : امتلاك تام للمكان .

– فضلها بلغ الذرى : امتلاء المجتمع بالتطور والنعم .

– العلا حول المدى تاجا لرأسك : الذهاب إلى أقنوم الدول الراقية .

الأيقونة الثانية : تمثل كثافات السلطة الحكيمة ، البارزة في السمات الرشيدة ، للقائد وقدرته على خلق أجواء هادئة منعشة . وقد تجلى ذلك في الإحالات التالية :

– ملك تتوج بالمهابة والعلا : دلالة العظمة والمكانة الرفيعة .

– قابوس من جمع المكارم كلها : علامة التكامل في الفعل والرؤى .

– قابوس من أحيا الوجود : إشارة لليد البيضاء التي منحت عمان ضوء التكوين ونور الحياة .

هذا الوصف الإيجابي نحو البلد والحكم , يذكرنا بتعبير الانتصار والتحيز للقبيلة – الصورة المصغرة للدولة – كما كان يفعل الشعراء سابقا ، إذ كان هناك موقفان ؛ التأييد والاحتجاج ، التوافق والرفض .

وفي منحى التعارض السياسي الصريح بخطاب مباشر يقول عبدالله الطائي :

يا شعب قد قاومت جهدك صامدا

فعلام تسلم أمرك الرؤساء

إن يسكنوا فيك الرجاء نشيده

كيما نثبت في الفخار بناء

قل للذين على المعالم ساوموا

ونسوا البلاد وحالفوا الدخلاء

أفلا يحرككم تراث خالد

يدعوكم أن تطرحوا الأهواء

ماذا تفيدكم غنائم زخرف

يجتث منكم منعة شماء

يا أيها الرؤساء بعض روية

تتبينون الداء والأدواء (3)

بالتأكيد ، حينما يشعر الكائن بالانقسامات السياسية حوله ، يعتريه انكسار حاد وخيبة عارمة ، إنه الضيق القاسي, جراء ما يحدث من انهزامات ، السقوط في معارك مختلفة ، متلاحقة , ثقافية ، واجتماعية و اقتصادية وغيرها ، على اعتبار أن القلق السياسي يقود إلى ارتباك عام في نواحي الممارسة .

إن اعتراض الشاعر لصمت القيادات بهذا النزف الصريح ، الجريء في تخطي دائرة الرضوخ أمام السالب , دليل على وجود عنف شديد وحقيقة لا توصف من التشرد و الضياع ، وجود قطبين متباعدين ، كل منها ضد الآخر ، الرؤساء غائرون في حياتهم و الشعب غارق في الفقد ، كل يوم يفقد جزءًا من أحلامه ، يعيش حالات بكاء شرسة ، منذور للاغتراب الروحي القاتل .

نتأمل صراعات الأنا الرافضة لصورة السلطة الصامتة ، الشاردة في البعد .

– يا شعب ، علام تسلم أمرك الرؤساء : هنا طلب حثيث لتغير صور الفشل و الألم و التمزق .

– قل للذين على المصالح ساوموا ونسوا البلاد : إشارة لحب الذات وتجاهل مفهوم الوطن .

– أفلا يحرككم تراث خالد : إيحاء لماض متأجج بالجماليات .

– يا أيها الرؤساء بعض روية : دعوة صريحة لمعالجة آثار الجروح العميقة في المجتمع .

لقد رأينا تضاد الشاعر مع المؤسسة السلطوية بكل أوصافه ، الجرأة في طرح الموضوع ، الرغبة الجامحة لإنقاذ الوضع المبعثر ، الثقة اللامحدودة في الشعب ، كل هذه الأشكال انبرت بلغة خطابية ، شفيفة ، واضحة ، تذكرنا أن القصيدة “لا تحتمل الأسى الصغير ، والفرح الصغير والإحساس الصغير بالألم والقسوة والخوف والحنين و لسعة الجمال ؛ لا تحتمل العواطف الصغيرة . القصيدة هي البنت الشرعية للعاطفة الكلية” (4).

ثانيا : الحلم وشبكة التجلي السياسي :

كثير من الشعراء يستخدمون المنحى الرؤيوي في وصف بنية النص ، حيث لا يعبر الشاعر عن أشكال الحدث بطريقة خطابية صريحة ، وإنما يعتمد على مجموعة من الشفرات ، تتكامل مع بعضها البعض ، لتشكل دلالة مركزية واحدة .

ويمكن اعتبار هذه النواة ، هي الحلم الذي يؤرق الشاعر ، يهشم وجوده ، يجعله مطاردا في كل شيء ، غير قادر على مواجهة الواقع القريب ، لذلك يذهب للبعيد ، يلجأ إلى استخدام لغة حالمة ذات نبرة هامسة ، تهمس بوجود هاجس ثائر ، غائر في الجرح . هذه اللغة الهائمة – عادة – تحمل مجموعة كثيفة من المجازات ، علينا أن نتتبع شبكتها حتى نصل إلى جوهر النص ومضامينه , فالشاعر خلالها يصعد الموجودات ، من المرئي للحلمي ، من المحدود للمطلق ، من الثابت للمتحول . وحينما نتحدث عن فضاء الحلم والشبكة السياسية فإننا نتحدث عن صراع دائم بين الموجود والمفقود ؛ الموجود (ظواهر المؤسسة القيادية وما تنجزه في الواقع الحياتي من بناء للفكر والحضارة) ، والمفقود (نقصان الكائن والمكان ، لمقومات الحياة الحديثة ، فشل في رباط العلاقة بين المنجز والمأمول) .

وحول جدلية الحلم والسياسة ، سنأخذ مقطعين لسماء عيسى وسيف الرحبي :

نقرأ سماء عيسى :

…..

وعندما تولدين وتتشكلين أيتها الغيوم

ثم تلتحمين غيمة وأخرى في سماء لا متناهية

ندرك إذ ذاك طعم الماء

الذي سترسلينه إلينا

ونقف لك خاشعين كعباد أمام الله

وكعشاق أمام جمالك المطلق

وحتى الجبال تحاول ضمك إليها

كي تسكني قممها

الجبال في أبديتها

الجبال العاشقة

سحب تضيء ظلام أرض من العراء والخفاء . (5)

لا شك أن العزاء الحقيقي في الحياة هو شدة القطيعة بين زمن الخصب وزمن الجدب ؛ ثنائية الامتلاك والفراغ , صورة التوحد مع الأشياء , و صورة الغرق في التلاشي ؛ أي بعبارة أوضح , الوقوع في عوالم الأحياء أو الأموات .

الشاعر هنا يمثل البعد الجماعي وليس الذاتي الوحيد ، يعبر عن نكبة كلية معذبة في النطاقين ؛ المعيشي والجغرافي الأول ، انحسار دوائر الفرح بسبب الجفاف الروحي والعاطفي ، لم يعد المجتمع يشعر بوحدة العلاقات الإنسانية ، هناك تفكك شديد في الروابط الحياتية ، والآخر يكمن في طوفان التصحر الجارف ؛ نذير التشرد الأبدي .

ومن ذلك تنتج معادلة القحط والماء ؛ القحط يرمز لواقع الشعوب لدينا ، واقع متشظ ، منهك ، متعب في التيه ، لا يوجد حوله سوى سلسلة من الهلاك والعراء لا حدود لها ، لذلك فهو يحتاج إلى منقذ يخلصه من ذلك ، إنه الماء ، علامة الخلاص من البؤس ويشير هنا إلى الجهة السياسية المسؤولة عن مصير حضورنا في الوطن ، إذا الماء هو الحاكم الغائب واليباس المجتمع الكاسف المنطفئ . وعندما نتتبع علائق النص ، ستتضح شبكة البعد السياسي أكثر .

– أيتها الغيوم : صراخ المجتمع للقوة الأعلى ، وعودتها للنزول إليهم .

– تلتحمين غيمة وأخرى : تعبير عن الحاجة العظيمة لفضائل السلطة .

– ندرك طعم الماء الذي سترسلينه إلينا : إشارة لتقدير الشعب مظاهر النعمة التي ستحل عليهم .

– نقف لك خاشعين كعباد أمام الله : الامتثال الكامل للوطن ، كالعشق الصوفي الخالص .

– حتى الجبال تحاول ضمك : الكل سيبارك جماليات النظام مباركة العاشق والمعشوق .

– الجبال العاشقة : خلاصة الأمر ، الجميع سينتشي طربا ، الجامد والمتحرك .

هذه الصور المتداخلة تقودنا إلى حقيقة مهمة وهي إن أبعاد النداء الجماعي ، لا بد أن ندركها تماما حتى نحصل على حيوات هادئة الملامح .

نأخذ صورة أخرى في المحور ذاته لسيف الرحبي :

مضى بصحبة الطائر

في ليل وحدته

بعيدا عن الثكنة

بعيدا عن الجماعة

قال : (ياربي هؤلاء قومي وأنت أدرى بهم

وأني بريء من حربهم وسلامهم .. أيها الطائر

امنحني قطرة من ماء روحك ، امنحني السكينة)

كنا نبحث عن مستقر

وسط الضجيج والأزمات

وكان الطائر قبل وقوعه في بركة الدم

باحثا هو الآخر

وسط عذوق النخيل المتمايل بفعل العواصف

في السحب الداكنة من غير مطر

وسط الأكمات(6)

يطالعنا هنا مشهد آخر لمعنى الصراع بين الحلم والسياسة ؛ مشهد ذاتي ، غير جماعي ، حيث الهروب إلى عالم العزلة البعيد ، دون القوم والوطن ، الذهاب للبحث عن كيان فاتن يدرك معنى الحرية ، وقد اختار طائرا لرفقته ، الذي عادة يرمز للحرية المطلقة ، ولكنه هنا يرمز للحرية المفقودة ، المسلوبة ، جراء القوى الضارية .

هذا الرحيل الحزين يفتح لنا عدة تساؤلات ، من بينها ، ما الذي يجعل هذا الراحل يرحل بهذا الكيفية الحارقة ؟ لماذا يهرب عن حاضره كليا ، تاركا كل ما اختزنته ذاكرته من تجارب ؟ هل كان الطائر كائنا وفيا ، يعرف ممارسات الحرية أكثر من الآدميين ؟

ستأتي الإجابة من خلال دراسة علاقات المقطع ، وتفسير الجدل بين الهدف والمصير . نتأمل :

– مضى بصحبة الطائر : الفرار إلى عوالم أخرى ، ربما تكون حانية .

– بعيدا عن الثكنة : الهروب من سلطة السياسة .

– بعيدا عن الجماعة : الهروب من سلطة القوم .

– وأني بريء من حربهم وسلاحهم : عدم الانتماء لصراعات الجماعة .

– أيها الطائر ، امنحني السكينة : إشارة لشدة عواصف الروح .

– نبحث عن مستقر : البحث عن وطن دافئ ، يدرك معاناة القلب .

– السحب الداكنة من غير مطر : خسارة الوصول للحلم .

ومن ذلك يمكننا رسم لغة الحلم بهذه المعادلة :

– خروج الراحل >>> بحث وتشرد >>> السقوط في أعماق الجفاف .

إذا ، النتيجة خائبة ، لا يوجد مستقر للمسافر ، كل الأمكنة مسكونة بالخراب ، الضجيج العارم ، سيل الأزمات القاصمة ، بحيرات الدماء ، عواصف الأزمنة ، تفكك الجماعة ، إخفاق السياسة .

بالتأكيد لا يمكن أن يتحقق الحلم وسط هذه الانكسارات الغزيرة .

ومن ذلك يهمنا إدراك أن طابع التفاعل بين الحلم وفعل السياسة حساس جدا ، فلا بد من الوقوف على صور الحياة كلها ؛ حتى نحصل على لحظات مشرقة .

ثالثا : الضمير السياسي وقلق الأنا المنكسرة :

نناقش في هذا المحور خاصية ثالثة ، حضرت في الشعر العماني السياسي بشكل ملحوظ في النصوص الحديثة ، وهي خاصية التمازج بين التأييد والرفض في النص الواحد ، حيث يكون الصراع بين صوتين ؛ صوت الرغبة وصوت البكاء ؛ الرغبة في الوجود والتعايش ، والبكاء على مشاهد المرارة المستمرة .

بالطبع ذلك يحيلنا إلى ازدواجية صورة الأنا ، الأمر الذي يعكس حالة عنيفة من التمزق والارتباك ؛ قلق الذات وقلق الحضور .

يعبر يحيى اللزامي عن ذلك :

يصحو سويد

كعادته

كل يوم صباحا

يشرب قهوته

يلبس (دشداشة)

العمل الموسمي

يعود مساء إلى داره

مثقلا بهموم الرغيف

يشاهد برنامج التلفزة

يدخن بضعا وعشرين سيجارة

يلعب (المشتري)

ينبري لنقاش مثير

حول انتشار الجراد

وشكل الطحالب

يفلسف إخفاقه

ثم يغط كعادته

في سبات عميق

ليحلم ، يحلم ، يحلم …. بالزوجة الرابعة . (7)

غريب أمر سويد ، يحلم بالزوجة الرابعة ، رغم أنه مثقل بالروتين الخانق ، مثقل بالسياسة ، متعب حتى النهاية ، فكيف له أن يعيش منتعشا وهو يكابد صورا مختلفة من الانكسار ، إنه منذور للأرق ، لا توجد لديه راحة مغلقة ، محصور بين معركتين ، مشاكسة الأيام الصلبة وشهوته الكاملة للمرأة .

لقد وقع سويد في حقيقة الامتلاك ، محروم من متعة الأشياء ، يعيش حالة سراب قصوى ، جعلته غير قادر على تخطي واقعه وتحديد رؤاه ، يرى الصور غائمة ، مما جعل المشهد يحمل واقع الاغتراب والتشظي وواقع الهدوء والرضا .

الأول يقودنا إلى أنماط سياسة مبعثرة ، تمثل صيغ الرفض والثاني يحملنا إلى أشكال الصمت وتمثل صيغ القبول وعندما نمعن في مدلولات النص ، سيتضح المشهدان جليا :

– المشهد الأول : أحداث الرفض :

– مثقلا بهموم الرغيف : دلالة الفقر والاحتراق .

– ينبري لنقاش مثير : وجود مجريات هامة ومثيرة .

– انتشار الجراد والطحالب : إشارة إلى وضع قاس جدا .

– المشهد الآخر : أحداث القبول :

– يصحو سويد كعادته كل يوم صباحا : إيحاء إلى روتين مستمر ولا توجد قدره على التغيير .

– يشاهد برنامج التلفزة : أي أنه يعرف واقعه لكنه عاجز واهن .

– يلعب المشتري : عدم الاكتراث بما يدور في المحيط من جراح .

الخلاصة المدهشة في الأمر ، أن سويد كان يدري الصور كلها ولكنه ظل في صورة واحدة ، اختارها لنفسه ، قرر أن يبقى منعزلا ، وحيدا يتلو أحلامه الهادرة .

وبمعنى آخر حول تمازج الصور في الشعر السياسي ، نستشهد بمقطع لخميس قلم ، يقول :

حلمت

وما زال في القلب متسع

لبلاد تغادرني

وأنا أحتسي وحدتي

ثملا / بالوجوه التي ملأتني بها

بلدي الآن حبة رمل بعيني

وقلبي قصيدة حزن / بصحراء غربتها غافية

صلبت

فعدت إلى الأصدقاء / أجادلهم عن بلاد

تضيق العبارة فيها / ويتسع الجرح فينا

بلاد تسير على جمر خيبتها حافية .

كتبت

وما عاد في القلب متسع

لقصيدة دمع

أروي بها ظمأ القافية (8)

إن تجربة الانكسار والمحو الشرس ، تعد منعطفا حادا يصعب تجاوزه أو نسيانه ، لا يمكن تجاهل فوران الحزن في القلب ، فهناك وقوف على حضور جامد, وقوف على زمن ملغي .

ما حدث في المقطع ، الشاعر مجرد من الحرية ، محروم من الوجود الحقيقي ، مبعد خارج حدود الجماليات ، لا يرى شيئا سوى أناه المكتظة بالقلق ، ومنفاه الوحيد الحزين . الأمر الذي أدى إلى وجود وصف حاد للواقع الذي يعيشه ، مخاطبته بصوت جارح ، تعبير عن حالة التعارض ، وهذه الصورة الأولى الحاضرة بشدة . ولكن رغم كل هذا التصادم ، إلا إننا نرى هناك صورة أخرى توحي بوجود رغبة في البقاء ، شيء ما يدفعه للتصالح ، ربما هي لحظة استعادة الذكريات ، تذكر بريق جميل في البلد .

مما سبق ، يدعونا للقول أن المقطع يفصح عن مفارقة بين طرفي الصراع ؛ الجريح والبلد ، يمكن وصفها على النحو الآتي :

* الصورة البيضاء : ومازال في القلب متسع .

أي يوجد هناك ضوء في القلب تجاه البلد ، ضوء خافت ، لكنه قابل أن يكون ساطعا ، أن ينتشر في أعماق الروح ، وهذا يدل على أن البلد عزيز مهما اشتدت صلابته .

* الصورة السوداء :

– بلاد تغادرني .

– بلدي الآن حبة رمل بعيني .

– بلاد تضيق العبارة فيها ويتسع الجرح فينا .

– بلاد تسير على جمر خيبتها حافية .

الصور كلها تشير إلى تصدع حاد في الروح ، عذابات هادرة ، دموع غير منقطعة ، حالات شرسة من الفجيعة ، أي بعبارة مختصرة ، قلق لا حدود له .

خلاصة :

اللغة هي التي تعطي الشعر ضوءه الخالد ، وتمنحه الحيوية المتجددة التي تحميه من الشيخوخة ، من خلال ما تقدمه من أبعاد مختلفة ، يشكلها الشاعر بعاطفته وتجربته الشعرية .

وعندما تقترن دلالات اللغة بمرايا السياسة ، فإنها تكون ذات طابع مختلف تماما ، نظرا للعلاقة الخاصة الحساسة بين الشاعر والموصوف ، سواء كان الوطن أو الحيز القومي ، فالشاعر غالبا في هذا المنحى ، يقدم ذاكرة جماعية بكل ملامحها وأزمنتها ، ومن هنا كان النص السياسي – دائما – مثيرا، شديد التوتر والقلق .

رأينا لغة الدلالة السياسية في النص العماني ، تارة تظهر صريحة , مباشرة ، مجلجلة ، معبرة عن أشكال الحدث بصورة واضحة ، وأخرى رؤيوية ، حلمية ، هادئة ، ذات صراخ خفي ، نكتشفه عند تفكيك علائق الصور ، وأحيانا تأتي غائمة ، متشابكة ، مزيجا من أصوات شتى ، اجتماع الأضداد في آن واحد ؛ الظاهر والباطن ، الواقع والحدس ، التلاحم والقطيعة .

أخيرا ، تضعنا هذه الصور كلها للقول ، أن نظرة الشاعر العماني نحو السياسة ، منبعها , الحقيقة الصافية وليس الهدير الفارغ ، إنها نظرة خلاقة ومخلصة نحو الوطن والعالم .

__________________________

الهوامش :

1- محمد راضي جعفر ، الاغتراب في الشعر العراقي صـــــ 154 .

2- نص / سعدت عمان : للشاعر ناصر بن سالم المعولي صـــ 29 . –مختارات الشعر العماني – وزارة الإعلام والثقافة .

3- نص نزوى للشاعر عبدالله بن محمد الطائي . الفجر الزاحف صـــ 83 مطبعة الضاد –حلب .

4- أفق التحولات في الشعر العربي صــ 127 نزيه أبو عفش دار الفنون .

5- غيوم – سماء عيسى , صــ 12 , صــ 13 آفاق للنشر والتوزيع .

6- الجندي الذي رأى الطائر في نومه . سيف الرحبي , صــ 66 , صــ 67, منشورات الجبل .

7- حنين بحجم حبة خردل, يحي اللزامي, صــ 35 الانتشار العربي .

8- ما زال تسكنه الخيام ,خميس قلم , صـ34 الانتشارالعربي .


0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *