الهبيون الجدد .. شعراء العمود الحديث – العراق نموذجاً

نشرت من قبل الكاتب العماني في

من ورقة بحث عن أشكال الشعر الجديد، شهادة من شاعر، منى نجم، جامعة كاليفورنيا
هاني نديم ـ شاعر سوري

شهد منتصف القرن الماضي انهيار العديد من النُظُم والثوابت وعرف انقلابات كبيرة مسّت مختلف المسلمات والأعراف والنواميس، إذ كان العالم ينهض من تحت رماد الحروب العالمية المتوحشة التي لم تغير خارطة العالم فحسب، بل أعادت صياغة العديد من المفاهيم والمواثيق الإنسانية والأخلاقية المتعارف عليها؛ فما إن استقرت غبار الحرب العالمية الثانية حتى ظهرت ارتدادات فكرية واجتماعية عنيفة تطلب طرقاً جديدة للخلاص البشري ذراعاها “الرفض والغضب” على حد تعبير همنغواي.

ووصلت فكرة “الرفض” ذروتها من خلال الأعمال الفنية والأدبية لفترة ما بعد الحرب، وتبدلت القيم القديمة التي بذل الإبداعُ جهده في تكريسها قبل الحربين إلى قيم العالم الجديد والمصالح الاستراتيجية بين الدول والاستهلاكية بين الأفراد؛ وظهرت حركات وجماعات فنية ودينية واجتماعية مخالفة للسائد، فكانت جماعة الهيبيين نموذجاً صارخاً لانهيار النظم ورفض الرتابة “الصورية” التي لم تثبت جدواها من وجهة نظر آلان غينسبرغ، الشاعر اللامع مؤسس تلك الجماعة، وانسحب مفهوم التمرّد على كل القيم الإبداعية الصارمة واستبدل الجيل الشاب الأوبراليات الحالمة بالجاز والروك أند رول الثائر، وركنوا إلى مسرح العبث والتجريب بدلاً عن قصص الحب الوادعة، وامتد الرفض مجتاحاً

بقية الفنون كالرسم والنحت والسينما، وانقسمت طريقة التلقي والقبول لمثل تلك الحركات فإن وجدت محلاً يقول :

hippies use side door،

سوف تجد آخراً يعلق لافتة كتب عليها:

for hippies only

وهو ما انسحب على كل الفنون التي شهدت متغيرات بدلت في لدائنها وبالتالي تبدل متلقوها واختلفوا فيها وعليها.

الشعر البهلول! – الشعر أول المتفجرات “بلوم”

إنه لمن غير الشعريّ تعريف الشعر والقبض على ماهيته، لكن ما يمكن لنا أن نتفق عليه بأن الشعر هو حادثة لفظية تخرج الكلام عن سياقه المعروف، ثمة شرارة في روحه تنبيك أنه ليس مثل بقية الكلام الذي يمشي على الشارع ويدخل البقال ويقف على إشارات المرور!، إنه حادث ارتطام لفظي عليه أن يحدث رضوضاً عميقة في أرواحنا وانقلاباً على النسق، الأمر الذي اتفق على تسميته بـ “الدهشة”.

ولعله من بين الأفعال الإنسانية الأكثر مقاومة للفناء، وعليه فهو دائم التجدد من أصل تكوينه، فإن بهت وخفت نوره..تعود جذوته من باب آخر، لا تكلّ ولا تملّ، غير آبه بحلةٍ أو زيّ، ما يهم الشعر حقاً أن يظل عالقا على حافة الشهقة..لا ينسى كبقية الكلام.

إذن.. فالشكل لا يعني الشعر في شيء، إنما هو وسيلةٌ أكثر منه غاية، وحيلةٌ تفرضها ضرورة وجوده وبقائه. من هذا الباب تحديداً عادت قصيدة العمود للحضور بشكلٍ قويٍ ومتجدد على أيدي شعراء حداثيين بكل معنى الكلمة؛ إذ علينا أن نقرّ أن قصيدة العمود قضت نحبها فيما مضى على يد أساتذة اللغة العربية المتنطعين باللغة دون الموهبة، ووجد الشكل القديم للقصيدة نفسه في محيطٍ تجاوزه بمراحل حتى بدت قصيدة العمود كهاربٍ من حفلة تنكرية!؛ وتوارت خجلةً وراء أشكال الشعر الأخرى ومفاهيمه الجديدة، وأصبح مجرد النظر إلى الشطرين يسبب القرف والحنق لدى الكثيرين. نعم..في حقيقة الأمر إن معظم ما كان يقدم ـ وما زال ـ من الشعر العمودي يتكئ على القرقعات اللفظية لإخفاء جثث الكلام، وهذا أمرٌ لا يجب إغفاله.

بالمقابل.. كانت قصيدة النثر تزدهر على أيدي شعراء كبار موهوبين خلصوا الشعر من براثن الناظمين المتعاملين مع اللغة بأنها (عدّة) نجار تكفي لتسلق صرح الشعر… إنما ما لم يحسب حسابه، أن النثر “المفتوح التجريب” قد دفع القارئ العادي الذي لا يمتلك أدنى الأدوات الشعرية الضرورية إلى الكتابة وتجرأ على نشر نتاجه الرديء بل وحتى إلى إصدار الدواوين والمؤتمرات والجلسات النقدية، واختلط الحابل بالنابل تحت اسم السوريالية والتجريب اللغوي حتى امتلأت الصحف بما يثير الغيظ ركاكة وغرابة، مما أبعد الشعر عن منابعه الأولى وانفض الناس من حوله للرواية والمسرح وغيرهما..وهذا ـ أيضاً ـ أمرٌ لا يجب إغفاله.

ولأن الشعر مغامرة ورحلة صيد ليلية كما يقول هوميروس، ولأنه سلمون يعاكس التيار ليعود لمسقط رأسه كما يقول فولكنر، عاد الشعر العمودي العربي اليوم! وأطل برأسه من بين كل تلك المفردات التي تجعل من وجوده نكتةً سمجةً، مستهجنة مع الهيب هوب والبلاك بيري وماكدونالدز وأرماني وبطاقات الماستر كارد والسفن آب والواي فاي وتلك الفوضى العارمة المتبدلة كل يوم والمتحركة كل رفّة عين هي من تصنع لوحة هذا العصر المدني المعدني بامتياز!

تشبه عودة الشعر العمودي اليوم إلى الواجهة في الوطن العربي ما حدث في أمريكا بعد الحرب، فقد استحضر الشعراء الأمريكيون حينها موسيقا الجاز والرسم التعبيري التجريدي وتداخلت في نصوصهم، وعاشوا البوهيمية إلى أقصاها، فهجروا الجامعات، وكفروا بالرأسمالية، وبحثت قصائدهم على قيم جديدة بجرأة صادمة بكثير من الأحيان، حتى وأنهم عادوا للأساطير ونبشوا في الحضارات القديمة كالفرعونية والهنود الحمر والتصقوا تماماً بالطبيعة والفطرية حتى في تشكيل النصوص الفني، ولعل ذلك ما يعنيه آلان غينسبيرغ بأن الفكرة الأولى التي تخطر في بال الشاعر هي أفضل الأفكار؛ ولكن المدهش أن المدرسة التي كانت هي الأكثر بقاءً وتأثيراً في الموجة الجديدة بالشعر الأمريكي هي مدرسة الإيقاع، فقد ظهر شعراء الايقاع “Beat Poets” في الخمسينيات من القرن العشرين وتجمعوا بشكل كثيف في سان فرانسيسكو حيث كانت مدرسة سان فرانسيسكو للشعر لافتة آنذاك. ومن أشهرهم آلان غينسبيرغ Allen Ginsberg وجاك كرواك Jack Kerouac ووليام بوروز William Burroughs.

وكانت قصيدتهم تعتمد على التكرار الصوتي واللفظي وتركزت مضامينها على مناهضة التوحش الإنساني بحيث يعزو الكثير من النقاد أن فن “الراب” الذي ظهر في التسعينيات هو وليد تلك التجارب.

هذا قريب مما حدث في الوطن العربي بعد انهيارات كبيرة جغرافية وتاريخية وسياسية دفعت إلى عودة قصيدة العمود نكايةً بالنسقية مرة أخرى.. ونكايةً بالصفحات والجرائد الثقافية التي كتب على أبواب معظمها: “الهيبيون يدخلون من الباب الخلفي!”، عاد العمود.. وهو يعرف أنه مستهجن ويثير ضحك الكثيرين، وفي ذلك يذكر د. عارف الساعدي حادثة عن تجربة شاعر عمودي زميل له شارك في مؤتمر لقصيدة النثر 1996، الذي ما إن نودي باسمه وصعد المنصة وبدأ بقراءة قصيدة وكانت (تفعيلة)، وبمجرد سماع الحضور الوزن خرج جميع من في القاعة وبقي الشاعر لوحده مع لجنة النقاد! ويردف الساعدي: “لذلك عرفنا أن مجموعة كبيرة في الوسط الثقافي كانت تنظر لنا بأننا مجموعة من المتخلّفين الذين يعيشون خارج الزمن، مع العلم أننا كنا نختلف مع ما يكتب من شعر عمودي مستهلك واجتراري”.

ماذا يقصد الساعدي هنا بمستهلك واجتراري.. وما الذي يبرهن قوله؟

“لا تقترحني

للصباحات المؤجلة السطوع

وعين شمسك تسهرُ

لا تنتظرْ

عند انفلات شفاهنا

كي نلتقي

في صرخة تتصحّر”

بيتان من البحر الكامل لنجاح عرسان يوضحان الصورة .. ولعلني إذ أكتبهما بهذا الشكل أتحايل على مخزون القارئ البصري ليتيقن حقاً من أن الشكل في جوهر الشعر صوري.. مجرد متخيّل فقط.

العراق شاعراً:

كلما ذكر العراق، تخطر ببالي عبارتان بالتحديد، الأولى لوارد بدر السالم كان قد كتبها لي ضمن إهداء لإحدى رواياته يقول فيها: “حينما تنتهي الحرب.. لا تنتهي!”؛ والثانية لأكرم الكسار في كتابه اكتشاف درة تاج حضارة وادي الرافدين إذ يقول: “العراقي حفيد الذي رأى كل شيء ، فكيف لا يكون شاعراً بكل جدارة”.

إن الكلام عن قيمة الشعر العراقي وأهميته التاريخية والمعرفية شبعت منه الهوامش والمتون!؛ وكل ما سوف يقال في مدح المكان شعرياً هو من نافل القول الذي يعرفه الجميع؛ ولكن ليس هذا هو السبب الذي جعل ورقتي البحثية هذه متصلة بالعراق، ولا لأن الحركة العمودية الجديدة خرجت بمفهومها الأوضح من أرضه، بل لإن العراق رغم (الكوما) الثقافية منذ 1990 حتى اليوم، لم يفقد صدارته وتصديره للشعر والشعراء المذهلين وأثبت مجدداً أنه ما زال أهم المخابر العلمية التي يمر بها الشعر العربي فيعاد تشكيله وكُنه لدائنه دون الحاجة لخامات خارجية إن جاز التعبير.

العراق تحت الحصار وما بين نهرين وحربين والأيام المفخخة والليالي السود، لم يترك لواء الشعر من يمينه في أحلك الظروف، وقد قُيّض لي أن أختبر المزاج الشعري وإرهاصات النص الذي تتكون هيئته في الداخل العراقي، من خلال “مربدين” كان فيهما العراق في أشد أوقات عزلته البرزخية، إذ كنا كشعراء قادمين من الخارج نستعد للاحتفال بالعام 2003 بينما كان المكان واقفاً عند العام 1991 إعلامياً واجتماعياً وسياسياً ولم يكن يدري بحق ما يجري في الخارج لانقطاعه تماماً عن المجرة دون إنترنيت وهواتف نقال وفضائيات! كان كل شيء في موات.. إلا الشعر الذي كانت أرضه خصبة للدرجة التي تقدم معها على نفس الخط من الارتقاء والتحديث سواءً من شعراء الداخل أو من شعراء الخارج، وهو تفريقٌ شاع آنذاك. وكان يفرز أصواته الشعرية على نحو مذهلٍ وتلقائي لا يحتمل اللبس في التقييم والأهمية, فحتى شعراء البلاط والمدّاحين، كان من الصعب بمكان أن يؤخذ عليهم عيوباً فنيةً أو يتهمون بقلة الشاعرية. ثمة حدٌّ أدنى بالعراق لتعاطي الشعر والنشر لا نكاد نراه بغيره من الأماكن.

وكما أسلفنا عن فكرة الرفض، فإن العراق تحت الحصار والظلم الذي لقيه شعبه من الحروب والفقر، تعالت صيحات الكثير من شعرائه بالعودة إلى شكل الشعر القديم كفراً بالحداثة في شكلها المطروح وتعبيراً آخر لرفضهم العزلة التي ضربت عليهم عالميا وعربياً وهم من مؤسسي فكرة الصف العربي. بل قد يكون هذا النهج برمته نوع من التطهر والتبرؤ من الغرب عن طريق نبذ إحدى صادراته (قصيدة النثر).

وكان أول ما وقع بين يدي هو بيان شعراء (قصيدة البيت), الخالص إلى ردّة عنيفة للبحور الخليلية وانزياح تام للشكل الموزون دون أن تفقد القصيدة ـ كما يدعي الحداثيون ـ قضاياها الكبرى, ويعرفون بجماعة الستة (محمد البغدادي، مضر الألوسي، بسام مهدي صالح, عارف الساعدي, نجاح عرسان ورشيد الدليمي)، حيث يبرر بيانهم الشعري لجوءهم إلى الوزن بقوله: “إن تخلي الشعراء عن الوزن أفرز انقسامات ذوقية , فأصبح الإشكال الشكلي مسيطراً على جانب كبير من هم الشاعر, بدل أن يوجه الهمّ الشعري نحو عناصر التفعيل في المعنى الأدبي”.

وحتى لا أدخل في نزاع ريادة قصيدة العمود الحديث في العراق، فلنقل أن الستة المذكورين من أوائل من رفعوا أصواتهم إعلامياً وأكاديمياً مطالبين بعودة قصيدة البيت للواجهة بعدما كانت تمشي في نصوص الشعراء على استحياء، وأول من عقدوا المؤتمرات وأقاموا الندوات وأصدروا بيانهم المشهور الذي امتد ليشمل الشعراء العرب ممن ينتهجون النهج ذاته. وهنا علي اإشارة إلى تجارب عمود عربية في غاية الجمال في مختلف بلدان الوطن العربي شكلوا فيما بعد موجةً كاملة من النموذج المعنيّ هنا، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر إلى أحمد بخيت من مصر، أحمو حسن الحمدي من المغرب، عبدالقادر الحصني من سوريا، زهير أبو شايب من فلسطين، الطاهر رياض من الأردن، حسن المطروشي من سلطنة عمان، الهادي الجزيري من تونس وجاسم الصحيح من السعودية، وغيرهم الكثير.

لقد أعلن الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد على الملأ بأنه سيموت وهو مطمئن على الشعر العراقي بيد الشعراء الشباب الذين وصفهم بأنهم (أهم منه) ـ ومن البياتي (بكل تأكيد!) ومن السياب.


0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *