“ارتحال القصيدة” قراءة في نص “سفر مطلق” لِـ حسام الجابري
“سفر مطلق” نصُّ حسام الجابري القاذف نفسه رؤى خضراء، في معراج أبيض، هو سفر الروح في وجهاتها التصوفية، التي تنقل المرء من عالم الوجود إلى عالم الماوراء …
النص مفتون بالغيب الآتي فتنة شاعر مجذوب، تلهيه رؤاه عن الـ “حول”، فلا يلتفت إلى شيء. وتغريه سماواته بالبريق فلا يلوي على شيء؛ بل يمضي غير عابئ إلى ما يبرق له خلف ضباب الحس ، وغشاوات الوجود.
تستحوذ على كليته دهشة رؤيوية باهرة، فلا تدع له ثمادة عين باصرة يتعاطى بها مع ما يرى المارة من الأشياء.
وتستهويه لعبة الترقي المتواصل فيمضي منسابا كأرض تستكشف السحاب!!! أيهما الـ “يمضي”، وأيهما الـ “يبقى”.. الكل متحرك لا ثبات.. النفس تسافر وراء أحلامها، والأحلام تسافر وراء الأنفس الموعودة بها.. الكُـلُّ قدر الكُـلُّ ..والمواتاة مؤجلة لكنها مؤقتة ..
إنه يطلق عيني بصيرته إلى هناك، في معراجه الأبيض، يصعد مع صديق آخر من نفسه يتهجَّى له الكون هجاءً شعريا؛ فنرى مفردات الكون تتمدد على مراقي معراجه، كمصابيح الطريق ، لا يتوقف الراكب أمام واحدة منها، يراها جميعا ، ولا يرى منها شيئا.
حين يبدأ الوحي في النزول يغمغم الشاعر:
بِإِصْبَعِ الْمَاءِ هَذَا الصُّبْحُ يَطْرُقُنِيْ
لِيَسْكُبَ الضَّوْءَ فِيْ إِغْفَاءَةِ الْمُدُنِ
“الصُّبْحُ” هنا يستدعي قبله ليلا، بطريق الدلالة الضمنية، والليل شيء مختبئ في ضمير الشاعر، لم يشأ أن يفصح عنه، وتفسير الليل، وتأويلات الليل في الشعر الآني سهلة ميسورة لمن يعيش في وطننا العربي؛ فالليل السياسي ضارب بجذوره من عقود كثيرة، يتنفس الناس الموت من هوائه، والمرض من دوائه، والسهر والحمى من بلوائه.
وكل ليل في ضمير شعرائنا لا يبتعد -مع شيء من النظر- عن الليل السياسي، ومشهديته البئيسة.
قد يكون الليل سوادا عاطفيا، تلقي بأجنحته الغرابية أمور ذاتية، لا غيرية من مشكلات الشباب، كالتعثُّر المادِّيِّ، والبطالةِ، والحبِّ اليائسِ، وغيرها .. وكل ذلك غارِبٌ في هذا الليل السياسي الذي أشرقت من عباءته ثورات عربية زلزلت العالم منذ الثورة التونسية، ومرورا بالثورة المصرية، والليبية واليمنية ، والسورية..
لذا؛ فإنه حتى عندما جاء الصباح استخدم الشاعر كلمة ” يَطْرُقُنِيْ” ليتشبث الليل ببعض البقاء، فالطَّرْقُ يكون للآتي ليلا، كما قال صاحب لسان العرب :” وسمي الآتي بالليل طَارِقاً لحاجته إلى دَق الباب وطَرَق القومَ يَطْرُقُهم طَرْقاً وطُروقاً جاءَهم ليلاً فهو طارِقٌ” ، وقال أيضا :” والطَّارِقُ النجم وقيل كل نجم طَارِق لأَن طلوعه بالليل وكل ما أَتى ليلاً فهو طارِق وقد فسره الفراء فقال النجم الثّاقِب ورجل طُرَقَةٌ مثال هُمَزَةٍ إِذا كان يسري حتى يَطْرُق أَهله ليلاً وأَتانا فلان طُروقاً إِذا جاء بليل” .
**
الصبح لم يكتمل بعد .. والصبح هنا يطرق “بابا” شعريا، وهنا تبدأ الصورة الاستعارية في التكثيف والتراكم، فلم ننْتَهِ بعدُ من تصوُّر الصبحِ طارقا، حتى فاجأنا الشاعر بالإصبع التي يدقُّ بها هذا الصبح الطارق على مطروقه .. إنه “إصبع الماء” ..
ولعمري أي إصبع هي؟!!! إن الماء “وَضُوءُ” الصباح، الذي يغتسل به اليوم الجديد المشرق من كدر الأمس الدابر الغابر استعدادا لإيقاع موسيقى ينعزف على قيثارة الأمل؛ فترى الماء ندى رقراقا على خدود أوراق النباتات، وتراه لدونةً متلبدةً على جدران البيوت: وبَرِها، ومَدَرِها، وتراه على الزجاج ضبابًا محبوبًا يلهمك الرؤيا ويشحنك بالقصيد.
إصبع الماء -ويا للشاعر – يكاد يلمس على وجوهنا أديم طفولة، مع لذعة برد خفيفة مع نكهة من رائحة الخصوبة الزراعية، أو نقاء الصحراء ، وهي تستحمُّ بهذا الماء الصباحي المحبب.
**
عندما جاء الماء انهزم الليل .. فتراجع وأعطى الفرصة للضوء، الذي جاء في كُمِّ الصباح لينسكب في المدن ..
فهل المدن المحتاجة للضياء إلا نفس الشاعر على اتساعها، وازدحامها؟!، الآن تدرك سر تسمية القصيدة “سَفَرٌ مُطْلَقٌ” إنها انطلاقة يتخفف الشعر فيها من “المدن” بآلية تجعلها شفيفة ، حيث يسكب الشاعر الضوء ، في “إغفاءة المدن”، التي ترسف فيها أرواحنا، وهي تسري في حنينها الدائب إلى الـ”هناك”.. إلى المهد الأول .. إلى حياة العري، والطهر، إلى الحياة التي تتجاور فيها الملائك في جنة عدن ..
الشاعر لم يسكب الضوء في المدن ذاتها .. لكنه سكبه في “إغفاءة المدن”. لقد جعلها تغفو والغفوة أول طريق الرؤى .. ليست الغفوة غفلة.. إنها انطلاقة إلى الإحسان في المشاهدة .. ألم يقل الشاعر :”ثم أغمض عينيك حتى تراني”؟!!
تتحول المدن الغافية التي تستعد لتلقي الضوء إلى حالة من الخلق الجديد ، تكون فيه المدن جنات ، فيها غرف من فوقها غرف مبنية ..
اللفظ في السياق الشعري تراب مبتذل يتحول بالشاعرية والخيال إلى كائن نشط يشارك في صنع الجمال والبهجة..
للفظ في الشعر هذه الخاصية المدهشة، وتلك القدرة السحرية العجيبة، لكن متى أتيح له شاعر صناع، يضعه في حاقِّ موضعه، ويعرضه في لائق معرضه، عندئذ يظهر رونقه، ويصبح ممطرا في سياق الظمأ، مضيئا في سياق العتمة، مبهجا في رقعته من الصورة الشعرية؛ عندئذ يصبح اللفظ نجما في مكانه من قماشة السماء ..
هكذا فعل حسام الجابري مع كلمة “إغفاءة” حين ركبها مع “المدن”، وأتى قبلها بـ”الضوء مسكوبا”، والـ”ماء إصبعا”، وقابل بين الليل والصبح، ليُشَكِّلَ بتقابلاته، وتجاوُراته، وتجاوزاته، وانزياحاته -الــ تترى في البيت- لوحة مشهدية أشبه بالحالة المدهشة.
هناك صدمة ما تحدث بين المدنية بأثقالها وتكاليفها، وبين الشعراء بشفافيتهم .. هذه الصدمة عاناها من قبلنا من الشعراء منذ ميسون بنت بحدل الكلبية حين تغنت بحنينها إلى حياة الطبيعة، وضجت من حياة المدنية فقالت:
لبيتٌ تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصرٍ منيف
وبكرٌ يتبع الأظعان سقباً
أحب إلي من بغلٍ زفوف
وكلبٌ ينبح الطراق عني
أحب إلي من قطٍّ ألوف
ولبس عباءةٍ وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرةٍ في كسر بيتي
أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فجٍّ
أحب إلي من نقر الدفوف
وخرقٌ من بني عمي نحيفٌ
أحب إلي من علجٍ عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطنٍ شريف
وعاناها المدثون من الشعراء، أمثال محمود حسن إسماعيل، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي، وبدر شاكر السياب وغيرهم ممن نزحوا من قراهم إلى المدن ..
المدنية بتكاليفها ، وتقاليدها، قيد على سفر الشعراء في المطلق .. راجع في ذلك كتاب :” المدينة في الشعر العربي المعاصر ” للدكتور مختار غالي ، عالم المعرفة ، الكويت العدد 196 سنة 1995م .
**
تستغرق الحالة شاعرها فيروح مشدوها يقتنص ما يتاح من مرئيات الطريق، أو قل : يتهجَّى هذا الطريق / المعراج ، الـ يصل به إلى بوابة السدرة:
فيقول: “هُنَا رَصِيْفٌ” وهنا نشعر أنه لم يُسْتغرقْ -بعْدُ- بكُلِّيـَّته في الرحيل؛ فالرصيف من بقايا مدن العتمة، إنه ينسلُّ من لباس الوجودية شيئا فشيئا؛ ليلبس شفيف الروح فيقول: ” وَقِنْدِيْلٌ ” ليصير أشبه بموسى عليه السلام إذ أتى أهله “بشهاب قبس”، أو “جذوة من النار” لكي يضيء بها الـ”غَيْهَبَةَ” الـتي أضاءت –بدورها- بجوار القنديل فلم تعد” غَيْهَبَةً” .. وهنا نلحظ بداية تحول السفر من سفر جسدي وجودي إلى معراج روحي، حدث هذا الآن عندما دخلت في مكونات الطريق هذه الـ”َتَمْتَمَاتُ” وعندما استغنى الشاعر عن لفظ “الطريق” لما فيه من الحسية بلفظ “سَبِــيْلٍ” الذي هو أقرب من الطريق إلى المعنوية والروحانية، وليكون أقرب إلى مادته التي صنعه الشاعر منها حيث قَــدَّه مِــنْ حَزَنِه.
والشاعر لا يكف عن المخاتلة التي هي إحدى آلياته في انزياحاته المتتابعة ، ليجعل الرحيل في أعيننا شيئا ضبابيا، غير مدرَكٍ تماما..
إنه هو نفسه لا يعرف ماهية الحالة التي تعتريه!!..
إنه مدهوش عن السر ، ذاهل ذهول المرضعة عما أرضعت .. إنه يجهر الآن بأن ما هو فيها إنما هو :”هُنَا احْتِمَالُ رَحِيْلِ الْغَيْبِ فِيْ دَمِهِ “
ليس الشاعر هو الراحل إذن !! إن الغيب هو الراحل في دمه!! والحق أن تصور الغيب راحلا ، والدم مرتحلا فيه أمر صعب على المتلقى إلا بالرجوع إلى الصورة الاستعارية التي تجعل من الدم طريقا تضاء فيه على الجانبين ، ومن الغيب موكبا نورانيا منطلقا في النفس ..
أتتفق معي الآن أن النفس هي الباب الذي طرقه الصبح بإصبع الماء ؟! ثم أتتفق معي أن الصبح هو الغيب الراحل احتمالا في دمه ؟! ..
يرشح الشاعر لهذا الاحتمال، بلفظ أدل عليه وهو “لعل” التي تفيد عند النحاة “ترجِّيًا” لمحبوب ، أو “إشْفاقًا” من مكروه فيقول:” لَعَلَّهُ – السِّرُّ – يَرْوِيْ قِصَّةَ الْعَلَنِ”.
الـ ” لعل” أقرب إلى التوتر الشعري من الـ”ليت” .. الترجي يجعلك في الظل .. لا أنت في النور ،ولا أنت في العتمة .. لا أنت في اليقظة ولا أنت في النوم ..
أنت في السكرة .. في الحلم الـ” لعل” هي هذه البينية المتأرجحة النفس بي شكها ويقينها .. ترجو بغير ثقة ، تشفق بغير اكتئاب .. تبتعد الأمنيات عن الأيدي لكنها مقبوض عليها بالأعين .. هذه هي الشعرية في إحدي تجلياتها..
وحسام الجابري حين يدبِّجُ نصه، يهتم بهذا البناء المشدود بعضه إلى بعض فتجد كلمة ” هنا ” وتكرارها يربط بيتين، ثم يبدأ الشطر الثاني من البيت الثاني منهما بـ “لعل” .. ثم يبدأ بها البيت التالي وهو نوع من إحكام الربط فعلته ليلى الأخيلى في أبياتها الحجَّاجية حين راحت تكرر الكلمات الأواخر في القافية لتجعلها أوليات أبيات في قولها الشهير:
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضـــــةً
تـتـبـع أقـصــى دائـهـا فـشـفـاهــــا
شفاها من الداء العضال الذي بها
غــلام إذا هــز الـقــنــاة سـقـــاهـا
سقـاها دماء المـارقــين وعـلـهــا
إذا حـجـمـت يـومـاً وخـيـف أذاهــا
فانظر إلى تمهيد الكمات بعضها لبعض، وتأمل قول حسام الجابري:
هُنَا رَصِيْفٌ ، وَقِنْدِيْلٌ ، وَ غَيْهَبَةٌ
وَتَمْتَمَاتُ سَبِــيْلٍ قُــدَّ مِــنْ حَزَنِيْ
هُنَا احْتِمَالُ رَحِيْلِ الْغَيْبِ فِيْ دَمِهِ
لَعَلَّهُ – السِّرُّ – يَرْوِيْ قِصَّةَ الْعَلَنِ
لَعَــلَّهُ يَتَجَــــلَّى رَعْـــشَةً بِفَـــمِيْ
يُؤرْجِحُ الصَّمْتَ فِيْ تَغْرِيْبَةِ الشَّجَنِ
وتأمل مكان هنا ، وهنا ، ولعله ، ولعله ، من البناء وراقب دور كل منها في إحكام هذه القطعة من النص.
**
هناك سر ما .. شعر ما .. غيب ما .. هو المرتحل إليه .. ربما يتجلى في مظاهر عشقية صوفية كتلك التي تختل الأولياء فنراهم في سكرتهم يبصرون، يفنون في ذات المحبوب ، ويذهلون عما سواه .. فلا يدرك من حبهم إلا التمتمات ، ورعشة الشفتين ، ورعدة الجسم ، كما يتبدى في الوجديَّات “الابن فارضية”، والإدهاشات “الابن عربية” و”الفناءات الحلّاجيّة” “والرؤى النِّفَّريَّة”..
لكن الإدهاش هنا في صورته:”يُؤرْجِحُ الصَّمْتَ”، أتتذكر معي هذه الـ”لعل”؟!!
الصمت هنا يتحول إلى لغة، إلى حركات دلالية لا دلالية في آن معا !!، حين يتجلى الصمت رعدة على شفة، أو آهة “تعانق الرئة”.
“النفس المفتون بالكفن” ليس كما يريد لنا الشاعر أن ننخدع فنظن أنه مكتئب متمَنٍّ للموت.
القصيدة التي يموت فيها صاحبها هي التي تكتب له الحياة، هذا ما يريد الشاعر قوله، أو قُل: هذا “تأويل رؤياه”.. ولذا اختار الكفن لا القبر. اختار البياض لأنه يمثل المطلق المفتوح الذي يريده طريقا لقصيدته، لم يختر الأسود السديمي الذي يوحي بالعدمية المطبقة…
لغة الموتى .. ؟! ما هذه اللغة ؟ ومن هم الموتى المعنيون هنا؟ هل الموتى هم الأجساد التي تسكن الأجداث؟! هؤلاء لا لغة لهم لقد أسكتت السنتهم وخرست ، وانطفأت العيون في عيونهم فلم تعد مبصرة !!
الموتى المعنيون هنا = هم الأرواح .. في برازخها .. ونعم لهذه الأرواح لغة هي التي يبحث الشاعر عنها لصدقها وشفافيتها ، ورؤيتها الحديد .. :”لقد كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. هنا يتجلي الموروث الديني في الرؤيا الحسام جابرية..
ولأنه يذهب إلى هذا العالم وليس من أتباعه فهو غرٌّ ، أو أمي لا يحيط علما بكنه هذه اللغة، ولا يتعمق أسرارها؛ لذا فهو أمي يتهجأ ..
“تَهَجَّأَ الْمَوْتَ أُمِّيٌّ غَفَا بِدَمِيْ “، والغفوة هنا هي طريق الإدراك، لا بد للعقل الوجودي أن يغفو لتنطلق الروح في سفرها المطلق .. تنفض عنها اثقالها من الجروح ، التي تتساقط على الدرب حتى يصبح الدرب جريحا ينتهي به إلى البياض الذي عبر عنه الشاعر بأنه “اللَّا شَيْء”.
غير أن هناك غموضا ما يعتريك فيربك خيوط الصورة في يديك عندما يولع الشاعر بالإغراب كما في قوله:” لَعَلَّهُ – السِّرُّ – يَرْوِيْ قِصَّةَ الْعَلَنِ”، فمعروف أن السرَّ هو الذي يفتش له عن مجلى، لخافيه، ومظهر لمسترره ، أما أن يصبح هو الذي يروي قصة العلن .. ففيه شيء من البعد .. يوقعنا في فوضى تأويلية غير مأمونة .
وكذا قوله:” والنُوْنُ فِيْ حَضْرَةِ الْكَافَاتِ لَمْ تَكُنِ” فلم يصل بي علمي المتواضع إلى فك شفرة الكافات ، وفتح مغاليق النون ، ولم أفردها وجمع الكافات .. هذا شيء يخص الشاعر وحده، وليس من المشترك المعرفي على الأقل بيني بينه ، وقد يتاح له من القراء من يفتح الليل عن صبح المعني في هاتين الصورتين .. !!
وقد يقع في ضد هذا الأمر عندما تنفضح صورته، عن مجرد لعب لغوي ، ماهر ، يخدعك عن ضحالة فلسفية ، وإفلاس شعوري عندما يقول:
دَرْبٌ تَذُوْبُ عَلَى أَحْشَائِهِ صِفَةٌ قَدْ أَوْصَلَتْهَا يَدُ الْأَوْهَامِ للمِحَنِ
لكن سرعان ما ينتبه الشاعر ، وهو جدير بهذا .. إلى شاعريته فيكون سهلا ممتنعا ، ويمس جوهر الشعر المبتعد عن الفلسفة .. في تصوف حبيب حين يقول:
هَلْ ثَمَّ فِيْ أُحْجِيَاتِ الرّوْحِ مِنْ جِهَةٍ
إِلَيَّ لا للْعَمَى .. تَأتِيْ وَتَأْخُذُنِيْ ؟!
وهو ما يزال في سكرته بتيهه ، والتيه – كما اراه هنا – معادل موضوعي للبحث عن الشعر ، عن القصيدة الحلم، عن الحرف الباحث عن شفة نورانية يتدفق عبرها إلى الوجود ليكون صلة بينه وبين اللاوجود، إن هذا التيه “تمرَّأ” روح الشاعر:
تَمَرَّأَ التِّيْــهُ رُوْحِــيْ كَيْ أَرَاهُ بِهَا
حَتَّى وَجَدْتُ بِأَنَّ التِّيْهَ يُشْــبِهُنِيْ
أشهد أن مفردة تمرأ جديدة على ذوقي .. وهي مدهشة ، لقد أدركت الآن معنى “هنيئا مريئا” .. ولم سميت المرأة :”امرأة” والرجل :”ارمرءاً” هل لتلك اللذاذة المتاحة في كل للآخر ؟ ! ربما .. التيه هنا يتمرأ روحه يتخذها سبيلا للكشف ..
أَيْنَ الْمَلَامِحُ ؟ قَدْ فَاضَتْ بِرِحْلَتِهَا
لِغُرْبَةٍ عُلِّقَــتْ فِيْ مُــطْلَقِ الزَّمَنِ
شَاخَ الْحَنِيْنُ وَهَذَا الْعُمْرُ تُوْغِلُهُ
عَلَى تَجَاعِيْدِهِ أُسْطُوْرَةُ الْوَهَنِ
انفتح هنا منغلق القصيدة وظهر شيء من شفراتها .. الرحلة ، والسفر، والتيه، والمرتحل ، والرؤى ، والمتداد في الذكرى ، والعرف على أجفان الأمنية .. هو الشعر .. هو الـ هناك .. الـ هناك الـ هناك .. المختلف.
**
ولا يمكن أن تقرأ هذا النص بعيدا عن آبائه .. من قصيد التراث التي تقاطع معها الجابري ولعل أقربها مودة وأمسها رحما به قصيدة جده المتنبي :
أَبلى الهَوى أَسَفاً يَومَ النَوى بَدَني
وَفَرَّقَ الهَجرُ بَينَ الجَفنِ وَالوَسَنِ
روحٌ تَرَدَّدُ في مِثلِ الخِلالِ إِذا
أَطارَتِ الريحُ عَنهُ الثَوبَ لَم يَبِنِ
كَفى بِجِسمي نُحولاً أَنَّني رَجُلٌ
لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني
فتح المتنبي بالنغم ، باب الرؤيا فأعطاه مفتاح الفناء .. ولقنه كلمة السر “التردد في مثل الخلال”.. “لم يبن” “لم ترني” منجه جدلية من الخفاء والتجلي فقنصها الجابري .. وانطلق من حيث انتهى جده ..
وربما يكون للنفس الحزين في القصيدة تعلق بقصيدة أبي تمام التي يقول فيها:
لَم يَبقَ مِن بَدَني جُزءٌ عَلِمتُ بِهِ
إِلّا وَقَد حَلَّهُ جُزءٌ مِنَ الحَزَنِ
لم يع الشاعر شيئا من هذا بلا شك .. لكن ذائقته أحالت عليه رغما عنه .. مما يدل عى غواية التراث كما سماها د. جابر عصفور .. وهو علىأية حال يدل على تأصيل للرؤية ، وفتح آفاق للرؤيا.. على جذور تمتد في الصحراء وفروع تسمق في السماء ..
ركب الشاعر موسيقى البسيط ، فراح على موجه يعلو ، ويهبط ، ويخفق ويضطرب ، ويتوتر ، ويسطح ويتعمق حتى عاد بصيد وافر من بحر البسيط من النغم الأثير المحبب الراقص ، الشجي .. يقترن فيه الحزن بالتمايل فيعطيك حركات ذكر صوفية ..
لقد وجد الشاعر الشعر في نفسه .. لكنه لم يزل مفتشا عن ميسمه ، عن ذاته ، عن طريقته التي يبهر بها العالم حين يبدع بها العالم.. لذا يخاطب الشعر الـ في نفسه ، ويحثه ، ويجلده .. لقد أكملت أدواتي .. فقلت كيف أفتحني ؟!
وهنا يلمس جوهر الشعر .. حين يتواحد به فيكون الفاعل والمفعول .. في صيغة المضارع .. ” أفتحني” … التي تظهر الشاعر واقفا أمام باب الشاعرية .. المسحور الذي يوشك أن يكون ما “بين مفتوح” لا يدرك كله ولا يترك كله.
د. علاء جانب
أستاذ النقد والأدب بجامعة الأزهر – كلية اللغةالعربية بالقاهرة
0 تعليق