يعتمد مفهوم التنمية اللغوية بمنظور العصر الحديث في اعتماد الثراء المعرفي علي تعدد المصادر المشروعة, وإتاحة الفرصة لابتكار الأساليب والطرائق المفضية إليه, مما يتعارض جذريا مع النزاعات الأصولية التي تري في نقاء اللغة مظهرا للتفوق العرقي في الحروب الإثنية, وتضفي عليها صبغة أيديولوجية تتذرع بالفهم المغلوط للدين تارة, وبالمصالح السافرة للسياسة تارة أخري, مما يدفعها إلي انكار الواقع التاريخي الذي يشهد بالتلازم المحتوم بين تطور أنماط الحياة بالحصاد اللغوي في مختلف مستوياته الصوتية والمعجمية, التركيبية والدلالية, علي اختلاف آثار هذا التلازم ووضوح معطياته, فلا مجال للحديث عن التنمية في اللغة ما لم نأخذ في اعتبارنا دينامية الاستعمال, ومصادر الثروة المستحدثة فيها.
روافد التنمية: هناك ثلاثة روافد أساسية تسهم في تنمية اللغة, ويختلف خط اللغات في الإفادة منها طبقا لشروط ثقافتها وحيوية معرفتها ومرونة بنيتها الداخلية, وأحسب أن تراتبها في الأهمية يمضي في اللغة العربية علي النسق التالي:
الرافد الابداعي في أشكال الأدب بأجناسه المختلفة, ومنجزاته اللافتة في تخليق الصيغ والتعبيرات الجديدة, وفتح قنوات التواصل بين الحقيقة والمجاز, وابتكار أشكال متجددة في أبنية اللغة لزيادة كفاءتها علي ما سنوضح بالتفصيل في هذه الورقة, ونعد هذا الرافد أساسيا لأنه يتمتع بمشروعية لافتة, إذا كان الشعر دائما مصدرا للتقعيد في اللغة العربية وشاهدا حاضرا علي أشكالها.
الرافد المعرفي المتمثل في محصلة التطور في العلوم الإنسانية والطبيعية, بما يطرحه من تصورات تتجسد في كلمات الحياة المتسربة الي صلب اللغة من ناحية, أو المتبلورة في مصطلحات العلم من ناحية أخري, وهو رافد ماثل في حركة اللغة علي مر العصور, لكنه يتعاظم في فترات الازدهار العلمي والاحتكاك بالثقافات الأخري عبر الترجمة كما حدث لدينا مثلا في عصر المأمون وإبان بعض مراحل الحقبة الأندلسية, وهو يشهد التصاعد إلي ذروته في ثورة العلوم في العصر الحديث بإيقاعها المتسارع, مما يجعله محكا حاسما في قياس مدي حيوية اللغة وطاقتها علي احتواء المعرفة وقدرتها علي تلبية الحاجات الضرورية للتنمية بل وأخذ زمام المبادرة فيها بالإنتاج العلمي ذاته.
أما المصدر الثالث من روافد التنمية اللغوية فهو ما يمكن أن نطلق عليه عبارة الرافد الواصلي, وهو الذي ينجم عن توالد اللغات في مراحلها التاريخية عبر العصور وما يتركه السابق في جسد اللاحق من آثار, كما يتمثل في تزاحم اللغات في مكان واحد وتدافعها للاستحواذ علي طبقات المجتمع من ناحية ثانية, وأخطر من ذلك من نراه من نمو طبيعي للغة يميل عادة للتحرر من القيود والاستجابة لمقتضيات التطور وربما كان هذا الرافد بعناصره المتعددة أعصي علي التحليل وأصعب في الاعتراف بنتائجه وتقبل معطياته, خاصة في ثقافتنا العربية التي اتسعت فيها مسافة الخلف بين الفصحي والعاميات, وإن انتظمت في جدلية مثيرة للاهتمام كان أفضل من نبه إليه في الفكر اللغوي الحديث استاذنا الدكتور إبراهيم أنيس في تحديده للسمات المشتركة بين الفصحي والعامية وتبعه الدكتور شوقي ضيف في التركيز علي فصاحة العامية, وإن لم نتفق حتي الآن علي درجة قبولنا لنتائج هذا المنظور في توسيع دائرة التطور ليشمل ما يسمي أبنية الإعراب الثانوية وضرورة الاكتفاء بوظيفة الإفهام الأساسية في التواصل.
طبيعة الذاكرة: علي أن مصطلح الذاكرة الذي أوظفه في هذه الورقة يمتح مفهومه من مجال علم النص الذي يولي أهمية كبري لعمل المخ البشري ومراكز الإدراك والإنتاج اللغوي فيه, فيميز علماء النص بين نوعين من الذواكر: إحداهما قصيرة المدي, والأخري طويلة المدي, ويدرسون آليات الاستدعاء والتذكر وأشكال التعالق بينها بطريقة علمية تجريبية, وبوسعنا الإفادة من هذا العلم باقتراح ثلاثة مستويات للذواكر اللغوية تمضي علي النسق التالي:أولا: الذاكرة المرقومة, وهي التي تتمثل في المعاجم والقواميس لمعتد بها علي مر العصور, وهي تتميز بالثبات النسبي, والتوالد البيني, وتمنح الاعتراف بشرعية الكلمات والتعبيرات الواردة فيها, وتتفاوت فيما بينها في الكم والكيف, اعتمادا علي درجات الاستصفاء ومعايير الإضافة والانتفاء, وهي ذاكرة بالغة الثراء في اللغة العربية, وإن كانت تحتوي علي كثير من الخلايا الميتة في جسد اللغة.
ثانيا: الذاكرة الموظفة, وتشمل المادة اللغوية الماثلة في أشكال الكتابة المختلفة مما يتوافق مع معجم اللغات المجمد حينا ويتخالف معه بمرونة سائلة حينا آخر, فيستحدث مستجدات الإبداع الأدبي والعلمي والثقافي معترفا بها بشكل ضمني, وهي ذاكرة تتميز بالسيولة الحركية والتدفق النوعي وقابلية الخلق والنماء.
ثالثا: الذاكرة النابضة, وحصيلتها ما يحيا في الوعي اللغوي الآني للجماعة في فترة تاريخية محددة, كما يتمثل في خطابهم المتداول في مختلف جوانب الحياة من السياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية وإعلامية, وهي ذاكرة شديدة التنوع والاختلاف والحركية, عسيرة الضبط والتقنين, إذ تمتح من النوعين السابقين بحرية لافتة, وتخرج كثيرا علي محصلتهما بجرأة مشهودة, ويتجلي فيها صراع القوي والنزاعات, واختلاف المشارب والطبقات, وهيمنت بعض الفئات في المجتمع علي البعض الآخر, وبوسعنا أن نعتبر الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والرقمي مرايا هذه الذاكرة النابضة في اللحظة التاريخية الراهنة, وقد اقترحت مشروعات عديدة لمحاولة الإمساك بحصاد هذه الذاكرة وتحليله وتصنيفه بمعايير مختلفة, لكن أيا منها لم ينجح حتي الآن في الثقافة العربية, مع إمكانية الإفادة من الطاقة المذهلة للحواسب الآلية في عمليات الرصد والتصنيف والتحليل لمادتها الغزيرة.
آليات التخليق:
ربما كان المجاز بأشكاله المختلفة, ومايسمي بالعدول أو الانحراف في الأبنية اللغوية, والإبدالات المتنوعة في مواقع الكلمات وأشكال التراكيب, هي منافذ الشعر إلي تجديد اللغة وإعادة تحفيزها. ومع ان صناعة هذه الاشكال تتمثل في الأدب بكل تجلياته, غير أنها تتركز في الشعر بحكم آلياته المكثفة في الاستعارة والترميز وإعادة الوضع, بما يؤدي إلي ضمان اكبر قدر من الحيوية والتنمية للغة في مختلف مستوياتها. من هذا نحسب أن الشعر يعيد تخليق اللغة بتجديد معجمها وأساليبها واحتواء نبرات الحياة المتنوعة في خطاباتها من اشارات وصيغ وإيحاءات تدخل في تصميم تكوينها, فهو الذي يضفي نكهة الحياة الغنية بتنوعاتها إلي موسيقي اللغة وصور دلالاتها وأشكال عباراتها. ولان الشعر أعلق بالذاكرة النابضة وأقرب إلي الاستحضار من التراكيب النثرية وأشد كفاءة في التمثيل الجمالي لحالات الانسان فإن معدلات استحضاره والتمثل به ومحاكاة صيغه التعبيرية أعلي بكثير من الكتابات النثرية حتي لو كانت أدبية تصب في دائرة توسيع دوائر التخيل وبناء العوالم المكتملة.
وقد قامت البلاغة كما هو معروف بالدور الأكبر في اسناد مهمة التذكر للشعر, بتحديد الأدوات والوسائل الملفوظة والمضمرة للتخزين والاستدعاء في النصوص الشعرية حتي اعتبرت أشكالها المختلفة من أهم آليات الحفظ والتذكر للنصوص الابداعية, خاصة الاشكال البديعية من جناس وطباق وتوافقات صوتية. من ناحية أخري فان ارتباط الشعر فلسفيا بحقيقة الوجود وتمثيله لروح اللغة وجذوة الثقافة تجعله أشد فاعلية في تجديد كينونة الانسان وأعلق بهذا النسغ الحي في الموروث الذي يشارف برصانته عالم الخلود, مما يؤهله كي يتجاوز دور الذاكرة الحافظة ليقوم بدور الرحم الولود الخلاق, وربما كانت التسمية التي اقترنت في الفكر الفلسفي بمشكلة الوجود باعتبارها أبرز وظائف اللغة التي تتوسل بها لاقامة جسور التواصل الانساني, مظهرا واضحا تتجلي فيه أهمية الشعر, حيث تصل تسمية المعنويات خاصة إلي ذروة توهجها الدلالي وتحققها الرمزي,
فاذا تأملنا كثيرا من المفاهيم المجردة أو العواصف المجسدة أدركنا أن الشعر برهافة مداخله وثراء تقنياتها التصويرية وظلاله التعبيرية كان أسبق من اللغة العادية في اقتناصها وتجسيد عوالمها الذهنية والوجدانية وتأطير مرجعياتها الانسانية, حتي ليمكن القول بأنها قد أصبحت من ابتكاراته وتقنياته التي يحافظ علي جدتها دائما, ويكفي مثلا أن نتذكر ما ركبته فينا الطبيعية من غريزة حب البقاء لنقارنه بما فعله الشعر من اقامة عوالم الحب والعشق والغزل والنسيب والنفخ الدائم في جذوتها المتوهجة لنقل الانسان من سجن الضرورة إلي أفق الحرية العاطفية, وقريب من ذلك ما أدركه بعض الشعراء من دورهم في تأسيس منظومة القيم المجتمعية بأطرها المثالي التي يقول عنها أبو تمام.
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتي المكارم
فهم الذين منحوا هذه المثل أبعادها الوجدانية والانسانية, وليست حالات الكرم والشجاعة والتضحية والوطنية سوي مغامرات في تمثلات الشعر قبل أن تكون ممارسات في واقع الحياة, فهو الذي تغني بها ونظمها في سياق نبراته القوية الحميمة, واذا كان حفظ كلمات القواميس والمعاجم حالة مرضية لانستطيع أن نتصور حدوثها في عوالم الناس المعتادة اذ تغرق الذاكرة في لجج الكلمات فإن حفظ الاشعار وانشادها يظل من أعلي درجات الوعي والذكاء العاطفي والفطنة لمواقع الجمال في الحياة.
نبض الشعرية:
ولكي نقيس بنظرة طائر مدي حيوية الشعر وقدرته علي تغذية اللغة وتنمية طاقات الحس والخيال فيها في حياتنا اليومية يكفي أن أضرب في خاتمة هذه الكلمات مثلين شرودين يجسدان الحضور القوي لفاعلية الشعرية في وجداننا. أحدهما يقع في هذا المستوي الرفيع الذي يشع من المقدس ويحف بروح كلماته, والثاني يتنزل عند مدارج الشعور المعتاد للناس في حالات رقيهم وتبذلهم, دون أن يكون الجمع بين هذين الطرفين مصدرا لتوتر الضمير الناجم عن المفارقة بينهما, فالقصد هو تأكيد شمول أثر الشعرية لكل الحالات والمستويات ففي تقديري ان الانسان العربي, سواء كان مسلما أو مسيحيا, متدينا أو عاديا, يشبع حاجته العميقة إلي الشعرية الرفيعة بسماع آيات القرآن الكريم بلغته المعجزة وبيانه الذي بلغ الدرجة العليا في البلاغة والاتقان, دون أن يلصق به تسمية الشعر, بل يطمئن إلي التقسيم الذي ابتكره طه حسين للأدب بانه يقع في ثلاثة أنماط, نثر وشعر وقرآن كريم, ويتغذي روحيا ولغويا بزخم الاعجاز القرآني وسمو عباراته بما تتضمنه من موسيقي وحكمة وبيان رفيع, بما يمثل زادا لاينفد لذاكرته النابضة, وقد صدق شــــوقي عندما قال:
فما عرف البلاغة ذو بيان
إذا لـــم يتــخذك لــه كــتابا
فالحالة الثانية المقابلة ولله المثل الأعلي دائما, فهي تلك الأغاني التي تنهمر علينا من منافذ الحس في السمع والبصر, وفيها كثير من الجمال وكثير من الفكر علي حد تعبير العميد أيضا, لكنها تمثل في تقديري رغيف الخبز الشعري الذي تتوق له الروح كل يوم, فهي وجبات غنائية شديدة التفاوت في حلاوتها, ومرارتها, في حجمها وقيمتها, كانت تعلو عند أم كلثوم وعبدالوهاب ببعض غناء عبدالحليم وكاظم الساهر وماجدة الرومي, وتنخفض عند غيرهم لكنها فيما أحسب ترطب جفاف القلوب وتبعث دفء المشاعر, وتنمي جماليات الوعي بالحياة وتمثل في نهاية المطاف كنزا متجددا للغة مفتوحا علي كل الأعمار والمستويات الثقافية.