قراءة في قصة قصيرة
حينما نطالع قصة زبد وثمة أقفالها القصة في المجموعة التي تحمل نفس الاسم للقاص طاهر الزارعي ، والصادرة عن دار فراديس في البحرين لعام 2010 م . نلاحظ تاريخ الضمير الإنساني في تناقضاتها الإنسانية كاملة والتي جعلت منه إنسانًا في صورته الحالية فالإنسان لا يكون إنسانًا من دون هذه التناقضات وإلا لكان منزاحًا لدلالات معنوية غير إنسانية إيجابيًا أو سلبيًا فالإنسان ليس ملائكي الصفات ولا شيطاني الخصال بل هو عبارة عن مزيج إبداعي من هذا وذاك…
والصراع داخل الكائن الإنساني صراع كبير بين هذه الصفات والخصال وقديم قدم وجود الإنسان، فالإنسان منذ القدم تعرف وأدرك وجود جميع هذه الأمور داخل روحه ونفسه ولكي يعيش مطمئن الضمير أوجد حلولاً تريح ضميره في ذلك فأوجد آلهة طيبة هي من أوجدت فيه صفات الخير وأوجد آلهة شريرة هي من زرعت خصال الشيطنة فيه في مثنوية استمرت عبر التاريخ البشري إلى وقتنا حتى في الديانات التوحيدية كان لابد من وجود هذا الصراع من خلال الشيطان الذي يجري في دم ابن آدم كما أن الله – سبحانه – أقرب إليه من حبل الوريد …
من هنا نرى أن بطل النص هو حالة إنسانية خالصة ، إنسان من لحم ودم كامل الصفات والخصال وهو في صورة حديثة امتدادية لشخصية تاريخية ظهر فيها نفس الصراع بين الدنيا و الدين، بين الله و الشيطان وبين الحسين ويزيد.
نستطيع أن نلاحظ هذا التناقض في شخصية بطل النص حينما مرَّ في الشارع وأخذت أذناه تصارعانه على سماع الموكب الحسيني أو أغاني فيروز ( وإن كان لي تحفظ شديد على اختيار الكاتب لفيروز في هذا الصراع ) ونجد الصراع أكثر تأزيمًا في حالة تذكرنا بصراع الإنسان / الحر الرياحي بين نفسه وروحه بين الحسين وبين الرياسة هل يذهب إلى الحسين أم يذهب إلى الحكم والملك فيقتل الحسين، وهنا بطل النص يقع في نفس الصراع بين القبة الزينبية وأن يشفى من مرضه أو يذهب إلى تلك الأجساد الحسان التي أخذ يتأملها وهي تعبر في الشارع.
هذا كله صراع كامل جعل من شخصية النص شخصية نابضة بالحياة شخصية ملكت جميع الصفات الإنسانية لا شخصية مبهمة عائمة لا نعرف عن كنهها إلا شيئًا بسيطًا …
لكن إن خرجنا عن أجواء الإنسانية في النص وانتقلنا إلى لغة النص ذاتها والكلمات التي كتب بها هذا النص نلاحظ بعض العيوب التي كنا نتمنى من قاصنا أنه لم يستخدمها لأنها لم تضفِ على النص أي فائدة مثل بعض التشبيهات التي نعتبرها من وجهة نظرنا غير مفيدة وسقوطها لا يخل بالمعنى وهي ( دعوت بحرارة مثل كائن مسكين ) فيكفي أن يقول : ( دعوت بكل حرارة ) أو يضيف لإتمام المعنى ( بكل حرارة وتضرع)
كذلك التشبيه ( انحنيت للمقام كرجل صيني ) يكفي أن يقول : ( أنحنيت للمقام ) أو يضيف ( انحنيت للمقام احترامًا )، وخصوصًا أن الانحناءة الصينية لها شكل وطريقة معينة لا يستخدمها أحد من المسلمين حينما يعبرون احترامهم لولي أو معصوم .
كذلك أفقدت بعض العبارات العامية النص قليلاً من الجمال حيث إنه لا داعي لوجودها وذلك أولاً لقلتها الشديدة وثانيًا لأن دخولها الفج – من وجهة نظري – كسر حاجز الجمال اللغوي الذي يشد القارئ للنص من أوله إلى نهايته.
تحدثنا عن التناقض داخل بطل النص وأنه من طبيعة الكائن الإنساني وأن الفعل الإنساني لا يأتي إلا من هذه التناقضية فالإنسان أوجد له منذ قدم البشرية وخلال تعاقب حضاراته قوى غيبية تبرر داخله هذا التناقض من خلال الإله الخير والإله الشر، وفي الإسلام كان هناك نقيض للفعل الإلهي الخير هناك الكائن الشيطاني / إبليس ، بل وذكرنا أن القصة اعتمدت في هذا الفعل على ثنائية الحسين ويزيد من خلال شخصية الحر بن زيد الرياحي التي تعتبر شخصية بقيت في صراع بين هذه التناقضية، وكذلك بطل زبد حيث وقع في هذا التناقض من خلال رغباته في الشفاء والذهاب إلى السيدة وما يتطلبه هذا الذهاب من إخلاص وتطهير للنفس ورغبته في متع الحياة التي تتناقض داخل شخصية البطل مع إخلاصه وتطهره لكي يحصل على الشفاء من السيدة فهو يريد أن يتمتع بجمال الحسناوات، ويريد أن يستمع إلى صوت فيروز إلى الغناء بشكل عام يريد أن يعيش كل هذه المتناقضات مع أن كسب ود السيدة لا يكون بهذه المتناقضات الحاصلة عند البطل بل بالتطهر كما قال خادم الضريح (( يجب أن تغسل القفل بدموعك )) لكنه هو ذاته الذي تلذذ (( بملامسة صدورهن والاحتكاك بأردافهن المكتنزة في سراويل الجنز )) لكن مع ذلك وجدناه يبحث عن تطهير مباشر لهذا الفعل بالاستماع إلى اللطميات الكربلائية التي (( تتسلق أذني اليسرى )) في هذا وجدنا صراعه كما وجدنا صراع الحر بين المال والغنى وبين أن يلطم صدره فداءً للحسين كي يتطهر ويحصل على الراحة النفسية لقلبه الذي أصابه الوجوم ..
وهنا بطل الزبد يرحل ليحصل على الراحة النفسية داخله والتي هي بطبيعة الحال لن يجدها إلا عند السيدة زينب هكذا أجمع الإنسان من حوله في غابات النخيل التي قدم منها (( هم من أشاروا إليّ بأن أزور هذه السيدة، وأعلق قفلا في ضريحها ، وأشرب من ماء الحرم الزينبي فلعل الله يشفيني ببركة هذا المقام … ))
لكن لماذا الحرم الزينبي ، وليس الحرم النبوي، أو الضريح العلوي أو الحسيني أو بقيع الغرقد ؟؟؟
لنجيب عن هذا السؤال لابد أن نغوص في أعماق الكائن الإنساني ليس فقط على الصعيد السيكولوجي بل وفي عمق حضارة النفس البشرية حيث كانت هناك الأم والأم فقط ، حيث كانت الأم هي معبودة الإنسان دون الله كان الفعل الغيبي عند البشر موجه صوب أم واحدة أم كبرى. الإنسان كان يعبد هذه الأم العليا إلهة أنثوية على صعيد حياته الجمعية والفردية كانت الأم هي كل شيء لهذا الإنسان فإليها يعود نسبه ولا توجد أي قيمة ذكورية للرجل قبل أن يثور الرجل على كل قيم الأمومة مع بدء فجر الحضارات الإنسانية والتحول صوب عبادة الإله الذكر وأصبحت الإلهة الأنثوية منزوية وضعيفة، لكنها لا زالت قوية داخل النفس البشرية الضعيفة وحينما يقوى هذا الضعف ويصبح في شكل أقوى تعود الإلهة الأنثى نحو الواجهة والقوة …
ذلك مثل الطفل الذي حينما يتم ضربه والاعتداء عليه من قبل قوة بشرية يلجأ إلى إله الحرب الذكر/ الأب أو الأخ الأكبر ، لكي يأخذ له بثأره، لكن حينما تكون القوة الضاربة قوى خفية غيبية، فإن لجوءه يكون نحو الإله الأنثى إلهة الشفاء / الأم فهي من تهدهد سريره عند المرض، وفي حالة الضعف الحرجة وفي نهاية القتال وحينما تقترب شفرة السيف من قطع رأسه يصرخ الإنسان داعيًا ((أن ليت أمه لم تنجبه)) فهو التجاء نحو الأم الكبرى …
وفي حالات أخرى في الإسلام حينما يحج الشخص نيابة عن أبيه مثلاً فهو يقول بأنها: (( نيابة عن عبدك … ابن أمتك … يا الله ))
ومع بزوغ الديانات التوحيدية الكبرى ( اليهودية والمسيحية والإسلام ) وسيطرة الإله الواحد القهار – سبحانه – أخذ الإنسان الموحد في البحث عن أم كبرى له يجدها حامية ومخلصة وشافية فظهرت : راحيل ومريم وزينب كأمهات كبرى لأتباع هذه الديانات الثلاث.
بل حتى حينما يتم الدعاء وطلب الشفاعة بالذكور الأربعة الكبار في الفكر الإسلامي وهم الرسول وعلي والحسن والحسين إنما يتم بكونهم أقمارًا حول الأم ( أم أبيها ) فاطمة الزهراء فنص الاستشفاع الشهير ( اللهم بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها ) ولنلاحظ هنا المقاربة الصوتية بين الاستشفاع والاستشفاء بالأم الذي يفعله الصغير.
ولنعد إلى زينب (أم عون أو أم هاشم) صاحبة النافذتين لتطل برأسها على فرقتي الإسلام ( الشيعة والسنة ) في الشام والقاهرة هي الملجأ ومع إيمان الفرقتين أن هناك رجال أو ذكور بلغوا في المقامات الإلهية منزلة أسمى منها ففي جانب النافذة الأولى هناك علي والحسين وفي النافذة الأخرى هناك الحسين والشافعي لكن كلا الفريقين التفوا حول أم عون / أم هاشم وتركوا كل الرموز الذكرية وإن كانوا في الحالة الرسمية يقرون بأفضلية الرموز الذكرية على هذا الرمز الأنوثي ولكن من الناحية الشعبية فهم لا يعرفون سواها( وأمين أخريتين هما فاطمة الزهراء وفاطمة أم البنين) ملجأ في الملمات. ذلك لقناعة داخلية فطرية أن هذه (أم) تعود بهم نحو ماضيهم السحيق حينما كانوا يعبدون ( الأم الكبرى ) في القبيلة.
وعلينا هنا ألا نغفل عن رمزية الكنية الصارخة بكل المعاني ( أم عون ) فعون هنا ليس طفلاً حقيقيًا حينما نضيف عليه ” ال ” التعريفية فتكون هي أم العون أي أم المعونة والمساعدة لكل أبنائها.
ومن هنا كان الالتجاء عند بطل الزبد صوبها لقيمتها كأم كبرى أولاً له وللجمع الذين أشاروا عليه ثانيًا فهم الأطفال الذين لا ينصحون بغير الأم ملجأ للمريض كي يشفى حينما يتعلق بثدي أمه فيغلق عليه فمه بإحكام كما القفل حينما يصطك بفمه على صكة الباب ولهذا كانت الأقفال المعلقة وهي دلالة نامية تصل إلى الفم في شكلها حينما يكون في حالة الإرضاع والضريح هو ذلك الجسد الذي يغذي الطفل من رحيق الحياة والشفاء …
من هنا كانت السيدة تعلق في ضريحها الأقفال ولم تعلق للحسين أو الشافعي ولهذا ضرب بطل الزبد آباط الإبل إليها في حين كان أقرب له أن يذهب للحرم النبوي ولبقيع الغرقد …