Site icon مدونة عمان

الـشّـعـرُ الحديثُ، وصِـراعُ الـحُـدود

عَلَى خِلاَفِ كْـلاَسِيكِيَّاتِ الشِّـعْـرِ العَـرَبِيِّ، فَإِنَّ الحَـدَاثَـةَ الشِّعْـرِيَّـةَ – وَمَا تَـشْـغَـلُـهُ مِنْ حَـيِّزٍ فَـوْقَ وَاقِـعِـيٍّ – تُـعْـطِـي الـشِّـعْـرَ أَحَـقِّـيَّـتَـهُ فِيْ تَـجَـاوُزِ كُلِّ مَـا لاَ يُمْكِنُ تَجَاوُزَهُ عَلَى صَعِـيدِ مُسْتَوَيَـاتٍ عِـدَّةٍ، بَـدْءً مِنْ الـمُـجْـتَـمَـعِ وَأَعْـرَافِهِ.. مُـرُورًا بِالسِّيَـاسَـةِ وَالْمَذَاهِبِ الفِكْرِيَّةِ والأَخْـلاَقِ.. ووُصُـولاً إِلَى الدِّينِ. وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَـفْـهُـومِ الـتَّـجَـاوُزِ ذَاكَ بِـحَـدِّ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَضَعُ الشِّعْـرَ فِيْ مَا بَيْنَ الاكْـتِـفَـاءِ بِتَـجَـاهُـلِ تِلْكَ الحُدُود الّتِيْ يَرْسِمُهَـا الوَاقِعُ فِيْ سَبِيلِ خَلْقِ كَوْنٍ شِعْرِيٍّ “لاَ علاَقَـةَ لَهُ بِالحَقِّ وَالأَخْلاَقِ” وَالسِّيَاسَةِ وَالدِّينِ، وَبَيْنَ مُصَادَمَتهَا لِخَلْقِ التّمرُّدِ، وَ”رُؤْيَةِ مَا لاَ يُرَى، وَسَمَاعِ مَا لاَ يُسْمَعُ”.

فَإِلاَمَ يَسْعَى الشَّاعِرُ العَرَبِيُّ فِيْ تَجَاوُزِهِ حُدُودَ الوَاقِعِ فِيْ حَدَاثَتِهِ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَصِلُ فِيْ ظِلِّ المُحَدِّدَاتِ الّتِيْ تَصْنَعهَا أَيْدُيولُوجِيَّات المُجْتَمَعِ حَائِلَةً بَيْنَهُ وَبَـيْنَ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ شِعْـرِيًّا؟ وَكَيْفَ يَرَى فِيْ تَصَوُّرِهِ مَرْحَلَةَ “مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ” بِوَصْفِهَا نَقِيضًا تَامًّا لِلْحَدَاثَةِ وَنَاقِدًا لَهَـا؟

د. هلال الحجري / شاعر وناقد عماني

التساؤل الذي لمح في ذهني و أنا أقرأ الاستفتاء هو: هل يمكن أن يكون الشعر إلا تجاوزا؟ و حين أجلتُ نظري في التساؤل، مستقرئا مسيرة الشعر العربي منذ الجاهلية حتى الآن، تيقنتُ أن الشعر اختراق للتابوات اللغوية، و الدينية، و الاجتماعية على أقل تقدير. هكذا فهمتُ الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، الذي وصفه النقاد في العصر الإسلامي بأنه كان “يتعهّر في شعره”، و ما التعهر الذي يشيرون إليه إلا تشبيبا بمفاتن المرأة، و هذا تجاوز لمنظومة الأخلاق و القيم الاجتماعية آنذاك. و لكن “تعهّر” امرئ القيس لم يمنع مفسري القرآن من الاستشهاد بشعره و الإتيان بأبياته جنبا إلى جنب مع الآي الكريم. و هذا يدل على أن أولئك المفسرين الأجلاء كانوا يدركون هذه الخصيصة التي يتمتع بها الشعر، و هي خصيصة التجاوز، و إلا لكانوا اطرحوه و نبذوه وراء ظهورهم مكتفين بأشعار المسلمين أو المخضرمين منهم، و حسبهم شاهدا على اللغة.

و هكذا فهمت أيضا موقف القرآن من اتهام العرب للنبي محمد – صلى الله عليه و سلم- بالشعر. فالقرآن اتخذ موقفا صارما في نفي هذه التهمة عن الرسول، و هذا دليل كاف على أن الشعر تجاوز و اختراق للتابو، و إلا لصح أن يكون النبي شاعرا. كلا، الشاعر خُلِق ليكون غير نبي، خُلِق ليتجاوز لا ليُشرّع.و هذا المعنى التجاوزي للشعر، أدركه ناقد ألمعي قديم هو الأصمعي؛ فقد هاله أمر حسان بن ثابت حين أخذ يجتر، في بعض قصائده، المواعظ الأخلاقية التي نطق بها القرآن. لم يسكت الأصمعي تجاه ذلك، و إنما صدع برأيه قائلا: “الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف؛ هذا حسان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره”.

و هكذا فهمتُ أيضا موقف الصحابي الجليل، و البحر الخضم، عبد الله بن عباس، من شعر عمر بن أبي ربيعة، و هو شاعر مرّغ أنف الأخلاق و الأعراف في مجون شعره و غزله. فقد كان عمر، كما تحكي لنا مصادر الأدب العربي، لا يترك حاجّة أو معتمرة إلا و يحرص على نضحها بزمزم غزله و تشبيبه، حتى لقد قال:

ثم اسبطرّتْ تشتد في أثري

تسأل أهل الطواف عن عمرِ!

و عمر بهذا التجاوز للأعراف، كان يلقى ترحيبا منقطع النظير من الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، الذي كان دون شك يعلم طبيعة الشعر و هيولاه.

و في العصر العباسي، تأكد الشعر بمعناه التجاوزي لدى الشعراء “المُولّدين”، و كان أبو تمام شيخهم الذي علمهم السحر. فقد كان “يقول ما لايُفهَم”، و يُصر هو على أن السامع له ينبغي “أن يَفهمَ ما يُقال”. و لذلك عرّف الشعر بقوله:

و الشِّعْر فَرْجٌ ليست خَصِيصَتُه

طولَ الليالي إلا لمُفْترعِهْ

و هكذا يتجاوز أبو تمام المفهوم التقليدي للشعر الذي عرّفه بعضهم بأنه “الكلام الموزون المقفّى”. كلا، لم يعد الشعر مجرد كلام موزون مقفى، و إنما هو “فرْج” لا يعرف أغواره إلا المفترِع.

أما في العصر الحديث، فإن معظم النظريات النقدية تلح على أن الشعر اختراق لأية حدود و أسلاك. الشعر الحديث لا تجده في المواعظ، و الخطب، و البيانات السياسية. الشعر الحديث لحمته الحياة بكل تفاصيلها، العظيمة و الحقيرة، أما سداه فهو الجموح و التمرد.

*****

محمد العزام / شاعر أردني

لا شك ان هذا السؤال يصلح لكي يكون موضوع بحث مطول , بحيث تساق فيه الشواهد وترصد من خلاله الظواهر التي تعكس تحولات المجتمع على الصعد كافة ومن بينها –بالضرورة – الشعر و الثقافة بشكل عام وبالتالي .. فإن الإجابة هنا ستكون مقتضبة و لن تستطيع مقاربة الموضوع بصورة كافية .

 يقول درويش في أثر الفراشة : الشعر هو الكلام الذي نقول حين نقرؤه أو نسمعه هذا شعر , و لانحتاج الى برهان .وبالتالي , فالبداية يجب ان تكون مع الشعر و تعريفه .. فهل يجب ان يتفق الشعراء على تعريف للشعر مثلا ؟برأيي , أنه لا ينبغي للشعراء أن يتفقوا على رؤية واحدة للقصيدة الجيدة أو الشعر الجيد وإلا لما كنا بحاجة لأن يتعددوا .. فشاعر واحد سيفي بالغرض إذن , كل شاعر ينطلق في كتاباته من رؤية شخصية للشعر و الإبداع تختلف عن الآخرين قد تتقاطع معها ولكن لا تتطابق, ومن هنا لا يمكن تعريف الابداع الشعري وتوصيفه فغموضه يظل جزءا من جاذبيته و سحره ..

 والشاعر الحقيقي لا يستجلب الصدام مع المجتمع استجلابا فليس بالضرورة أن يكون الهدف من الكتابة هو التمرد لأجل التمرد , كما يفعل البعض , وليس مطلوبا من الشاعر ان يكون سياسيا أو فقيها .. كل ما هو مطلوب منه هو أن يكون شاعرا , يقتنص اللحظة الشعرية الهاربة ويوثقها بالقصيدة ..

و إذا لم يكن الشاعر جزءا من مجتمعه و قضاياه , فلمن يكتب ؟ هناك سياقات تاريخية مفهومة قدمت للشاعر مبررا كافيا ليتجاوز المجتمع بعاداته في سبيل فكرة سامية , وإذا تجاوز الشاعر إرثه و تراثه , وأطلق الرصاص على المجتمع من حوله وفي كافة الاتجاهات , فعلى ماذا سيرفع قواعد قصيدته ؟

لأن الذاكرة ستكون من بين الضحايا , فالقصيدة يمكن أن تتوسل لحظة متوترة لتنفجر وتسيل على أوراق الشاعر , ولكن لابد لها من متكأ في ذاكرته , فالشاعر يمتلك ذاكرة من نوع خاص , يقبض بوساطتها على كثير من التفاصيل حوله , من أمكنة ووجوه وحتى رائحة الأشياء . فمن هذه التفاصيل , يعتق الشاعر نبيذ فكرته , قبل أن يعبئها في كؤوس القصيدة , والشعر بحد ذاته هو ذاكرة , تصب فيه هواجس وأدوات و تجارب سابقة و معاصرة , ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ندعي ان القصيدة تولد على قارعة الطريق وحيدة و عارية من الذاكرة التي تتراكم دائما .. وإلا لكانت لقيطة ..

 إذن يجب على الشاعر أن يحاول إعادة قراءة الأشياء من حوله من خلال القصيدة يجب عليه إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر القصيدة و الشعر وأن يكون جزءا من المجتمع برؤيته الثاقبة و الجديدة لا متعاليا عليه بحجة التمرد لأنه اخيرا يكتب لهذا المجتمع.

وفيما يتعلق بالدين ,, لا يوجد ما يبرر التطاول على الدين قد نتفق و نختلف مع قراءات و تفسيرات , ولكن الدين هو خط أحمر لا يتطاول عليه إلا كل معتد أثيم .. وأنا شخصيا لا أحترم الشعراء الذين يتطاولون وأعتبرهم غير قادرين على استشعار عظمة هذا الدين أو قد يكونون من طلاب الشهرة بأي ثمن ..

وما أود الحديث عنه هنا هو أن أمتنا العربية ومنذ سنوات طويلة تسعى جاهدة للبحث عن هويتها وربما من ثمرات هذا البحث هو ما نراه من ربيع عربي يتفلت غيمه في الاتجاهات كافة و ليس بعيدا عن ذلك ما نراه من ظواهر في الساحة الشعرية , كالقصيدة العمودية المحدّثة والتي تكاثر كتابها على غير اتفاق ولا تواطؤ في العالم العربي بأكمله كمؤشر على رد فعل الثقافة على المنحى الذي نحته القصيدة في العقود القليلة الأخيرة حيث اتسعت الفجوة بين القصيدة و المتلقي , و أصبح الشاعر غريبا في الساحة الثقافية و لايكترث لإنتاجه المبهم أحد, في هذه الفترة .. يصر الشعراء الجدد على إهراق ما تحتويه جرارهم الشعرية من سكر الشعر و وورده , يصرون على سكبه في خلد المتلقي العربي بأشكال تتوسل الذائقة العربية وما تراكم من موسيقى عبر قرون طويلة مع عدم إغفال التجديد, حتى لا أقع في فخ المصطلح , التجديد على مستوى الإيقاع والصورة والعلاقات الداخلية للكلمات و التي ينهض على مجموعها النص الشعري .

متفائل بالشاعر القادم على سرج لغته المحملة بكنوزها الشاعر الذي يثق بثقافته و يقدمها في كؤوسه لذة للشاربين .

******

نايف الرشدان / ناقد وشاعر سعودي

الشعر في عصرنا اتسعت حدقاته باتساع حدقات متلقيه وتمددت آفاقه أبعد عما ينظرون إليه. الشاعر العصري لم يعد رهين الخارج ولا الداخل. إنه رهن إشارة الطارئ الذي يلتف حوله ويغيبه في التماعات تتواشج أو تتناسل او تتعالق أو تتقاطع، المهم أنها تأخذه إلى عالمها الذي تفضي إليه، بعدها يحضر خارجه وداخله استجابة لنزعات الذات وتهيؤاتها

اللافت في الأمر أن الشعر على مدار العصور كان يعيش على عكازين هما المبنى والمعنى – الأول متصل بالمهارة والصياغة والثاني مرتبط بالفكرة والبلاغة وكلا العنصرين ينشدان التأثير وحسن التعبير ..

على الشاعر الآن أن يمرر فكرته لا مدسوسة في قبعة أو منقوعة في سرابيل بائدة، وانما يحسن اختيار اللباس لها بعد أن يكون قد هيا لها متكأ عند المنتظرين بالخارج، فمن الصعب أن تبادر من ينتظرك بالعزلة. نعم لدى الشاعر المبدع الواثق القدرة على ان يصوغ قيما شعرية وجمالية لكن ليس لديه القدرة على فرض استعذاب النص أو تقبله.

الأخلاق أراها في كل شيء، لكن من االضروري للشاعر أن يتحرر ليس من الأخلاق، بل من الانغلاق.

*****

أحمد الأخرس / شاعر فلسطيني

موضوع كهذا يكفي لكي يكونَ رسالة دكتوراة في النقد، حقيقةً إن الحديث في هذا المضمار يطول جداً، ثم إنه لو أردنا أن نلخّص الموضوع بشكل سريع، فيمكننا القول أن الحداثة في الشعر مرتبطة بشكل أساسي باللون أو الفكر السياسي الذي يتبناه الشاعر شخصياً، هناك من الشعراء من ارتبط بالعلمانية ارتباطاً وثيقاً، و هناك من ارتبط بالشيوعية، و هناك من ارتبط بأيديولوجيا محددة لا يخرج عنها كالإسلام مثلا، أما العلمانيون و الليبراليون و غيرهم، فقد اتخذوا من حرية التعبير بشكل مطلق منهجاً لهم، و أما المُأدلَجون، فلهم ضوابطهم التي تبيّن لهم المشروع من الممنوع، فالدين الإسلامي مثلاً حرم الخمر و الكفر و المس بالذات الإلهية و غيرها من الخطوط الحمراء، و من وجهة نظري، فإن هذا ما ساعد على ارتقاء الشعر الإسلامي إبّان صدر الإسلام و العصر الأموي، حيث أن هذه الخطوط الحمراء عملت على لفت نظر الشاعر إلى زوايا أخرى و مواضيع أجمل و أرقى يمكنه الخوض في غمارها..

شعرياً، فإنه لا علاقة بحدود الدين بمستوى الإبداع الحقيقي الذي يتجلى في أسلوب الشاعر و قصائده، الشاعر البارع في نسج الغزل، لن يصعبَ عليه أن يبدعَ في أي موضوع آخر شاء.. أما بالنسبة للمحددات الشرعية التي نتكلم عنها، فإن نفسَ الشاعر تغويه لكي يكسر حدود المسموح إلى الممنوع، لذلكِ لم يأتِ قول الله عبثاً حينما قال: ((و الشعراء يتبعهم الغاوون))..

أما نظرة الشاعر إلى ما بعد الحداثة فهي نظرة تحمل الكثير من الجدل و الآراء المتضاربة، ففي ما بعد الحداثة، و ظهور ما يسمى بقصيدة النثر: اختلفت معايير التقييم و النقد لدى الكثير من النقاد العرب، أما رأيي الشخصي بالنسبة لفترة ما بعد الحداثة، فأنا أراها فترة عصيبةً على الشعر العربي الذي لم يعد ديواناً للعرب كما عُهِد.. فظهور قصيدة النثر “التي لها ما لها و عليها ما عليها” أعطى مساحةً للمتسلقين حبلَ الشعر أن يمنحوا أنفسهم لقب “الشاعر”، و أن يستسهلوا الورود إلى دائرة الشعر.. لهذا، فقد امتلأت المكاتب خلال الأربعين سنة الماضية بالكتب الفارغة من قيمتها الأدبية الحقيقية، حتى يئس القرّاء من الشعراء، واتجه ميولهم إلى الرواية هروباً من الغرق في ترّهات الكلام…

*****

هاني نديم / شاعر سوري

بداية لا أعرف إن كانت صيغة السؤال محسومة، إذ لا ينهض الشعر من بين الكلام ليقول ما هو مخطط له، أعتقد انه انفجار بوجه الواقع والحلم معا، ولعله من المعروف أن علماء الاجتماع لا يعتمدون في دراستهم لعصر ما على المؤرخين المؤدلجين، بل على شعر ذلك العصر، فأبو نواس مثلا كان مرآة أصدق من ابن كثير على سبيل المثال لواقعه، إن الشعر هو سكْرٌ واع إن جاز التعبير، فطري ومُهندس، ولأنه أول المتفجرات فهو يقود الكثير من المفاهيم حتى المشوهة منها، لا يعنيه ذلك، ولا يأبه بما يقدم، صدقه شفع له وهو ديمومته بغض النظر عن اللافتة التي حملها، ولهذا وقف على خلاف مع الدين والنظم والثوابت وهو مستمر في خلافه لا يركن لشيء إلا لصوته الداخلي.

إن ما يقدم 2011 وإن كان على البحر الكامل، فهو حديث ومتجاوز .. الشعر في أصل أصله، قفزة أمام الكلام والعادية.

*****

الشيمـاء العـلـويَّـة / شاعرة عمانية

عندما يكتب الشاعر نصا ما، فإنه يسعى فيهِ لخلْقِ عالمِه الشّعريّ الخاصّ بِه، يُعـيد منْ خلالِهِ تَفْسيرَ مَا حوْلهُ – واقعًا مادّيًـا كانَ أوْ مَعْنويًا – تفْسيرًا مُجرّدًا مِمَّا فرَضَهُ الواقعُ عَليهِ، ويُحيلُ الكونَ بنظْرتهِ الإنْسانيّةِ الفِطْرِيَّةِ وحْدهَا إلَى فلسفاتٍ خاصّةٍ بهِ، ورُؤىً تسيرُ وفْقَ ما تُمْليه عليْهِ طريقتهُ في التّفكير ومنْطِقهُ الواعي المُكتسبِ مِن احتكاكهِ بالموجُودات، لا منَ الأفكَار الّتي يقومُ بهَا الواقعُ نفْسه، وإلاّ ظل بعيدًا عن ذاتيّته مصوّرًا الـوجُـود تصويرًا مُباشرًا لا جدّةَ فيه ولاَ تفْسيرًا لمظاهرهِ تفْسيرًا سايْكولوجيًا يقُومُ عليهِ الشّعر.

التّحررُ منَ الكيفيّةِ الّتي يفْرضهَا الواقعُ ليكُونَ كمَا هُـوَ تصلُ بِمَـا يريدُ التعبيرَ عنْه منَ ذاتِهِ إلى ذواتٍ أخرَى إنْسانيًا دونَ أيّ وساطَة آيديولوجيّة، وهذا أجدُهُ السبيلَ الذِي يقولُ فيهِ الشّاعرُ ما لاَ يُقالُ، لرؤْيةِ مَا لاَ يُرَى، وسَمَاعِ مَا لاَ يُسْمعُ.. في مُحيطِهِ المبْنيّ علَى ما هُـوَ مُتعارفٌ عليهِ عُرفًا فقط.

أمَّا بالنّسْبَةِ لِما بعدَ الحداثة، فإنَّها – كما أتصوّر – بِوصْفِها نقيضًا – تذهبُ بالشِعرِ إِلَى مَا بعْد هَـذَا التّحرّر: الوصول – ذاتيًا – إِلَى حدودٍ مَا دينيًا وأخْلاقيًا وَسياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، حسبَ قناعَات الشّاعرِ، بَالِغا تصوّرًا شعْريًّا فوْقَ وَاقعِي يسْتقرّ بهِ نفْسيًا بعدَ إعَادَتهِ تفْسير ظَواهر الكَوْن والوجودِ، إذْ تتكَشَّفُ لَهُ الحَقَائِقُ.. فَيرسم حدودَهُ بعدما توَصلَ إلَيْهَا بِنَفْسه، لاَ منطلقًا مِنْهَـا، بحيْث لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ تِلكَ الحدود متوافِقَةً مع حدودِ الواقعِ الحقِيقيّ.

Exit mobile version