أهمية الرمز / عبد الرضا علي أنموذجاً

نشرت من قبل الكاتب العماني في

ورود الموسوي – ناقدة عراقية

ليس سهلاً أن تتحدث عن ناقد بقامة الاستاذ الدكتور عبد الرضا علي دون أن ترى لكل شيء ظلاً وخيالاً حولك .. بل يكفي ذكر اسمه حتى ينفتح لك باب الى مجهول يقودنا اليه برشاقة العارف محتفلاً بـ كل دهليز منه بـ أسطورة .

وكيف لا وهو الذي فتح بابها بكلتا يديه مضيئاً لنا وجوه قرأناها على بعد دون تبيُّنِ ملامحها فــ راح يُرينا ملامح تموز وعشتار , بعل ولاة , عوليس وبنيلوب , المسيح والسندباد .. من خلف وجهٍ هزيل ذي ملامح ناتئة تشي باختلافه الذي كافأته ربّة الشعر عليه باختيارها له دون غيره … مُدلِّـلاً بكل ما لديه أنّ أحداً لم يستطع فكّ لُغز الاسطورة من أسطوريتها قبله .

فتجدنا (نحشُكُ) وجوهنا لنرى وجه السياب الاسطوري عبر كتابه الموسوم بـ (الأسطورة في شعر السياب) في العام 1978.

ولم يقف عند حدود الاسطورة السيابية فـ إن كان السياب نال كتاباً واحداً منه فإن نازك الملائكة كان لها الحظ الأوفر في اهتمامه بها ناقدة وشاعرة حتى عدّ من المهتمين والمختصين بــ شعرها ونقدها من خلال كتابه الاول (نازك الملائكة دراسة ومختارات في العام 1987) وايضاً من خلال كتابه الثاني (نازك الملائكة الناقدة 1995). فضلاً عن حواره معها في القاهرة واستشهاداته بها في مواطن كثيرة.

ومن خلال ما مرّ من اطّلاعي على ما قدّمه الناقد الدكتور عبد الرضا علي أستطيع القول ( ولا علم لي إن سبقني أحد بإضاءة هذه النقطة في مسيرته العلمية أم لا) أنّ الدكتور عبد الرضا من النقاد الذين احتفلوا بالرمز احتفالاً خاصاً وواضحاً في كل ما قدمه في الادب العربي الحديث.. بل أصبح الرمز لديه سمةٌ لا تفارق أصابعه بالبحث عنه وعقله عن كشف ما يحتويه النص من رموز بل يجدر بي القول أنه ممن يستمتعون في كشف وجه الرمز للقارئ حتى تكاد تراه مفتّشاً عن الرمز في كل شيء مرجعا كل صورة لأصلها باحثاً عن الأصل في كل ما تمتد إليه يده أو تطاله مدركاته التحليلة في الاساطير والتراثات الشعبية وحتى الأمثلة وحكايات العجائز وما يدور في أزقة العالم الضيقة.. كل شيء فيه يتحفز مفتشاً عن وجه الرمز الذي استند عليه النص.

وما الكتاب الذي أغلقت صفحاته للمرة الثالثة إلا مثالاً حيّاً على اعتماد الناقد وتسليطه الضوء على رموزه الذين قدمهم ودرسهم شعراً وسرداً.. فلم يقتصر الكتاب على تقديم تحليل نقدي حول الرموز المعتمده (لدى عقل المتلقي والناص والناقد) كالأساطير وما يُستمد من تراثيات بل أنه في هذا الكتاب قدّم لنا وجوهاً بشرية اعتبرها رمزاً حقيقياً لكتابته الابداعية. فما وجه حسين مردان و السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وأمل الجبوري وادونيس وعبد الكريم الناعم و لوك نوران وكل من ذكرهم في القسم الأول من الكتاب الذي نوقش شعرياً الا رموزاً شعرية استحقت الكشف عنها من خلال استخدامها لرموز تجلت من خلال ابداعاتهم فما حسين مردان إلا رمزاً مقابلاً للبحث عن الحب الضائع المتشبث بنشيد الانشاد وما أمل الجبوري الا المعادل لإنخدوانا التي تماهت معها ألماً ووجعاً وغربة .

وما السياب إلا تموز وما لوك نوران إلا عشتار السياب بمرحلته الأخيرة أو جيكوره المفقوده .. وما عبد الوهاب البياتي الا وجه عائشته التي ظل ينشدها في قمرياته. وسأترك الحديث في الرمز الى حينه ورغم أن الكتاب مليءٌ بالجوانب التي تستحق الكتابة نقدياً وحتى تحليلاً إبداعياً (كتذوّق) لكني سأكتفي بالحديث عن أبرز نقطتين في هذا الكتاب وهما اللغة النقدية وأهمية الرمز عند الدكتور عبد الرضا علي.

أولاً: اللغة النقدية

اعتاد النقد العربي أنْ يقدم لنا كتباً لا يمكن اكمالها لثقل لغتها حتى تكاد (تغصّ) بما تقرأ .. وذلك بسبب رداءة الترجمة على المستوى الأدبي (شعرياً / سردياً) وايضاً تعدتها الى ترجمة المصطلحات النقدية حيث تبرّع بعض المترجمين بخلق مصطلحات بديلة تزيد من تعقيد المعنى وغموضه (حتى) يكاد لا يفهمها غير صاحبها متناسين المنهج التعليمي الذي يسعى النقد لتقديمه للاجيال.

(من يستقرئ أساليب المترجمين في علاقتهم بالمتلقي بوصفه المقصود باللغة المنقول اليها النص يستطيع أن يفرز اسلوبين واضحين من تلك الأساليب هما : المضطرب , وهو القليل , والرصين وهو الكثير.ومع أنّ المضطرب قليل إلا انّه أساء إلى المتلقي وحرمه متعة الوصول إلى المنجز الجمالي المبثوث في المنقول وشوّه الهدف الذي سعت اليه عملية الترجمة أو عملية صياغة المنتج. إنّ هذا الاسلوب أوقع المتلقي في فوضى للاصطلاحات وجعله أسير رغبات الوهن والخلل في الفهم والاستيعاب مما ولد اختلالاً في التوصيل)

هكذا يرى الدكتور عبد الرضا علي بعض الترجمات التي أساءت الى النص المنقول والى المتلقي في آنٍ معاً . وعليّ أن اكون أكثر جرأة من الدكتور علي لاترك تعليقي على ما ذكره أعلاه حول رصانة الكثير وضعف القليل .. بأن الترجمة (إلى) العربية ما زالت تعاني تعثراً كبيراً وواضحاً مقارنة بالترجمات العالمية .. ما زال الكتاب المترجَم يحمل لغةً مترجمة عسيرة الهظم وهذا لا يُحسه صاحب اللغة الواحدة – وأعني – المتلقي الذي لا يملك إلا اللغة العربية قد يجدها ترجمة حيّة بينما المطّلع على ذات المنجز بلغتين كأن تكون العربية والانجليزية سيشعر بالفارق بين الترجمتين حتماً.. هذا اذا استثنينا العبقري (عفيف دمشقية) الذي تعامل مع النص بروح المبدع وليس بروح المترجم الذي يفتقر ربما لفهم الثقافتين بالشكل الدقيق .. وآخرون كـ (سامي الدروبي) الذي أبدع في ترجماته وهؤلاء يُعدّون على عدد أصابع اليد الواحدة .. أما في ترجمة المصطلحات النقدية فمن المؤسف حقاً ان تطالعنا فئة أصبحت تتندّر فيما بينها (بابتكار) مرادفات أكثر ضبابية… وكأنهم في سباقٍ أيهم يأتِ بما لم يأتِ به الآخر.

وهذا ما أورده الدكتور في ذات الموضوع (الترجمة والمتلقي) حول تركيب كلمات تفسد ذائقة القراءة:

” فمن النحت والتركيب استخدم المترجم: ( المتعضي – للمتعة العضوية) (النفسدي – للنفس والجسد) ( والثناقيمي – لثنائية القيمة) … الخ “

أما وأنت تقرأ (أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده) ستبدأ رحلة اللغة معك منذ العنوان .. حيث يستوقفك العنوان أولاً لتعرف أنك أمام رحلة آمنة العواقب ثرية المقام حيث دقة الاختيار للمعنى دون إرهاق القارئ بالتفكير أنه امام كتاب نقديّ .. (وليت كل كتب النقد تُقدَّم لنا كدارسين وباحثين على شكل أوراق تحمل بين دفتيها دَسَم المعرفة وخفّة ظلها).

هذه الأوراق جاءت بدقّة العارف لا تطرح مُسلّمات ولا تحاول ممارسة سحب البساط من القارئ وجعله يتبعها اتباع الأعمى دون إمْهاله التفكير أو التأييد أو الرفض بل جاءت لتعطي مهمة محددة (في تلقي النص).

إذن نحن أمام أوراق تحمل مفاتيح فهم النّص الذي نقرأه دون التدخل بما يؤمن به القارئ أو يكفر .. وهذه مهمة النقد الحقيقية .. ليس الناقد إلاّ (حداداً) ماهراً يصنع مفاتيح النص بكل اشكالها كما يرى دون فرض رأيه على النّص أو المتلقي متّبعاً كل وسائل التوضيح المتاحة لإيصال المعنى لمتلقيه دون الإكثار من المصطلحات أو النظريات الا بحدود التطبيق.

وأنت تقرأ أوراق عبد الرضا علي ستجد اللغة الرصينة والشفيفة التي تعتمد إيصال المعنى دون التواء أو استناد لاصطلاحات لا تعني كثيراً لقارئها. اذ هو لا يقدم نظريات حول تلقي النص بل هو يضمّن النظرية داخل التطبيق بالترميز لها من خلال تحليله للنص.

ثانياً :الارتكاز على الرمز وأهميّته:

قد لا أتفق مع من يحدد المذاهب الأدبية الى رومانسية وواقعية ورمزية بتقسيمات تبدو لقارئها أنها تعتمد سيرة الاقصاء والالغاء لهذه التسميات الثلاثة وحشرها متفرقةً حسب مراحل زمنية علينا المضي ورائها والتسليم بها.

فـ الرومانسية والواقعية والرمزية لم تولد خارج أي زمن.. وأعني بذلك ان في كل زمنٍ وجدتْ هذه الثلاثية .. فاجتمعت هذه العناصر معاً على يد افلاطون مكوّنة فلسفته وعلى يد ارسطوطاليس وكل من مروا بالفلسفة اليونانية القديمة .. كانت هذه الثلاثية منهلاً للافكار فتارة تراها موغلة بالرومانسية واخرى متجردة بواقعيتها واخرى موغلة برمزيتها .. لكن ظهورها ابّان عصر التنوير وما رافقها من اهتمام جعل منها قاعدة لتبني الأدب والفن حسب مراحل زمنية (اشتهرتْ) بها فقط ليس لأنها لم تكن موجودة بل تم التركيز عليها في هذه الحقبة من الزمن.

فما الرومانسية إلا ثورة على تردّي النفس البشرية وابتعادها عن فطرتها الطبيعية فراحت تسحب اهتمامها بالنظر الى العودة للحياة الرعوية والطبيعة والانعزال المثمر والتأمل وتحويل كل صوت الى نصّ أدبي أو لوحة فنيّة .

لكن لا يمكن إغفال الواقعية المتداخلة في لُبّ الرومانسية ذاتها.. وهذا ما عبّر عنه بول فاليري بمقولته (لا بد أن يكون المرء غير متزن العقل إذا حاول تعريف الرومانسية) والسؤال الذي غفل عنه فاليري كيف يمكن ارتباط العقل الداعي الى الواقعية في أغلب طروحاته بتعريف الرومانسية النافية للواقعية العقلية والمتجردة من أي ما يمت للعقل أو الواقع بصلة؟ حتى لو أردنا سلب المعنى العقلي عن المعنى الرامي له بقولنا ان المقصود هو العقل بصفته مركز التفكير ومملكة الاحساس الأولى ونقطة الإيعاز الأولى ايضاً سيظل السؤال قائماً.. العقلانية جزء من الواقعية لا الرومانسية.

إذن ليست الطبيعة التي يفرون إليها إلا واقعاً يعيشون فراره.. وما الانعزال الذي سعى اليه الشاعر بحثاً عن الخلاص مما يعلق بالواقع إلا واقعاً آخراً تَمَرَّدَ على واقعٍ مُعاش وما مسرحية فاوست لــ يوهان غوته الا دليلاً آخر على واقعية الصراع بين الانسان والشيطان.

لم تتخلص الرومانسية ذاتها من داء الواقعية التي هربوا منها إليها.. وما ولادة المذهب الواقعي او التركيز عليه وتبنيه منهجاً أدبياً الا وليد هذه الرومانسية حتى تعددت المدارس والمسالك والتسميات فمنها ما عُرف بالمدرسة الرومانسية الواقعية والواقعية الانتقالية والواقعية الاشتراكية ووو الخ .. وبين هذين المنهجين (الرومانسية والواقعية) كان الرمز حاضراً بشدة في كل الأعمال التي قدمت على في تلك المراحل .. فالرمزية لم تنفصل يوماً عن أي اتجاهٍ أدبي أو فني حتى مع تعريف نشوئها كـ ردة فعل على من نادوا بأن (الفن للفن) مطالبين بفهم الفن او الشعر على انه غاية بحد ذاته ولا ينبغي ان يخدم اية قضية اجتماعية او سياسية .

لا يمكن ابداً تصوّر قطعة ادبية او لوحة فنيّة مهما تمازجت موضوعاتها دون ارتباطها بالإيحاء لشيء.. فليس –دائماً- الرمز كائناً موجوداً بالضرورة كالاساطير او الشخصيات او الحوادث.. بل قد يكون تصوراً ذهنياً يختلف من شخص لآخر حسب مدركاته الحسية وقدراته العالية على التخيّل للوصول الى جمال ما يرى أو ما يقرأ أو ما يسمع. ولكل من يود التأكد من صحة ادّعائي هذا بالعودة الى كل ما قدمته المدارس الرومانسية والواقعية ليجدها مليئة بالرموز والايحاءات ويكتشف تداخل الثلاثية في أغلب ما تم تقديمه.. لكن الترابط الرمزي الذي حصل بين عقل المتلقي أو الناقد وكيفية توظيف الرمز لدى النّاص خلق قاعدة (رمزية) واحدة اتُّـفِـقَ عليها (دون اتفاق) بين صاحب النص و(رمزه) على خلق هذا الترميز.

وعوداً على بدء .. فإن هذي الرمزية – سواء كانت واقعة في مقام رمز واضح الملامح أو إيحاء لشيء ما – ترابط ترابطاً وثيقاً في عقلية الناقد التي يتمتع بها الدكتور عبد الرضا علي.. حتى بات لا يستطيع أنْ يتصوَّر أو يتذوّق نصاً دون إيحاء له أو رمزية فيه .

وهذا ما تعامل به في (أوراقه الإبداعية). لم يكن صعباً عليه وهو الخبير بكل ما تحوي الرموز من دلالات وإيحاءات تقصي الملمح الرمزي لها ليس شعرياً فحسب بل سردياً وهذا أراه فتحاً آخرَ يُضاف لمقدرته العلمية والنقدية بتتبع ملمح الرمز (سردياً) إذ أراه اعمق من الرمز الشعري في حال مسك خيوطه وكشفه. أي من السهل جداً أن تجد الرمز داخل النص الشعري وذلك لما يحمله الشعر من طابع التكثيف والترميز الذي ترابط معه.. لكن أن تتعقب هذا الرمز سردياً بدلالات واشارات قد لا يكون الناص نفسه منتبهاً لها هنا لابد من وقفة اجلال لهذا المتتبع.

هذا الكتاب القيّم حمل جانبين أساسيين في التقسيم.. حيث قدّم الدكتور علي في القسم الاول أوراقاً في فهم النصوص الإبداعية الشعرية ابتداء بحسين مردان وتناصه مع نشيد الإنشاد الذي لم يغيّر منه شيئاً (حسب الدكتور علي) مروراً بأمل الجبوري التي وظفت (إنْخدوانا) كرمز معادل لها بالوجع.. عبوراً ببواكير السياب وتوظيفه الرمزي وقدراته النقدية كشاعر ناقد بكشف (رمزية) السياب الناقد مجدداً عن طريق الاعتماد على مراسلاته مع عدد ممن كانوا يرسلون له قصائدهم ومن ضمنهم أدونيس وعبد الكريم الناعم الذي نال الحظ الأوفر من النقد السيابي الذي يدلل على اهمية فكرة الشاعر الناقد (دون وعيّ ربما من السياب أو بوعي) مثبّتاً في ذلك مقولة الشاعر والناقد دكتور علي جعفر العلاق (لا يمكنني تصوّر زمنٍ دون شاعر ناقد) هذه المقولة التي اتفق معها كليّا وهذا ما أوصله لنا السيّاب من خلال هذه الرسائل التي كانت أشبه بأوراق (عبد الرضا علي) كانت أورقاٌ تحمل رأي شاعر متذوق قبل كل شيء .. لا يجبر احداً على المضي برأيه لكنه لا يجامل على حساب النص عارفاً بأساسيات النقد التي لابد أن يتحصّل عليها الشاعر الناقد.

أما القسم الثاني من الكتاب فجاء يحمل أوراقاً في تلقي النص السردي وما يجول في دهاليزه من رموز لا تبدو واضحة للعيان لكن بحرفية الناقد المتمرس باختيار مداخله للنص والبحث فيها رأيناه يتتبع الرموز رمزاً رمزاً كـ موازنته النقدية بين قصة محمد المغربي عمران (اليمني) وشاكر خصباك (القاص العراقي) التي تناولت موضوعة (القتل غسلاً للعار) واختار الدكتور كلمة (موازنة) عوضاً عن كلمة (مقارنة) لأن الاولى تعني الموزانة بين عملين لمبدعين من نفس الامّة بينما المقارنة تكون بين مبدعين من أمّتين مختلفتين. أثبت خلالها الدكتور انّ كل ادوات قصة المغربي عمران بُنيت على اساس رمزي (فما منجل مريم) الذي قتل فيه إسماعيل ابن شيخ القرية وما (الجرو) الذي قتل ايضاً ليوضع جنب المنجل وجثة الطفل الا اشارات الى رمزية اخرى تأتي حين تساق مريم (البريئة من أي تهمة) إلى السجن في المدينة لتتحول المدينة إلى سجن. تهيء لها مديرة السجن (والتي أراها رمزاً لدناءة الحياة بمفهومها الأوسع حين تعركُ ما تبقى من شخص) لتُخضع (الضحية مريم) لنزواتها وشذوذها الذي لا ينتهي حتى تهيء لها (آدم) حارس السجن الذي يفترس مريم أمام عين (مديرة السجن) إرضاء لرغباتها.. وما (آدم) وهو اختيار ذكي من القاص للاسم الا تمثيلاً للرجل الذي يمارس دور الفحولة المزيفة بعيداً عن أية ضوابط أخلاقية.. وما اسم (مريم) الا رمزاً للطهر المطلق المستوحى من (مريم العذراء).

هذه القصة كان فيها من الرمزية الشيء الكثير الذي رآه الدكتور عبد الرضا علي وجعلني أرى فوق ما رآه معانٍ اخر لا يسع مقام الذكر ذكرها هنا.. لكنّ التعامل مع رمزية السجن الذي جسّد وجه المدينة إلا رمزيةً اخرى لما رمز إليه السياب في قصيدته (جيكور والمدينة) المدينة التي صوّرها السياب بالتفاف حبالها حوله لتسرق منه قرويته هي ذاتها التي سرقت مريم من قرويتها.. هذه المدينة التي رآها السياب رمزاً للافعى تجسدت مرة اخرى في وجه (مديرة السجن) الأفعى التي امتصت رحيق طفولة كانتها مريم.. وما المدينة التي سلبتْ شرف (المومس العمياء) ها هي مرة اخرى تسلب مريم عذريتها فإن كانت تلك قد هربت للمدينة خوفاً من القتل فها هي مريم تُساق إليه.. ويبقى الرمز واحداً في كل التوظيفات.

وعلّ الرواية الاخيرة التي ختم بها كتابه الثري (ليس ثمة أمل في جلجامش) للمبدع خضيّر عبد الأمير وترابطها بالوجه الاسطوري الأبدي لملحمة جلجامش بدقة تصويراته الفنية حتى في الوصف الذي اعتمده خضيّر مستلهماً من جلجامش بعض صفات بطله (خليل) لكن خليل لم يكن الهاً كما كان جلجامش ولا يتمتع بأدنى ما كان يتمتع به جلجامش فقد كان بشراً سويّاً.. وهنا تحدث المفارقة بين ما يحدث لجلجامش وبين خليل.

في نهاية هذه الدراسة القصيرة أود التأكيد على أن الدكتور الناقد عبد الرضا علي لا يستطيع التعامل مع نصٍّ دون رؤية رمزه أو حتى خلق رمز له عائداُ به حيث كل شيء بحثاً عن قرار يقنعه كرمز لهذا النص .. وهذا إن دلني على شيء فإنما يدل على ان الدكتور علي لا يؤمن كثيراً إلا بالنص الذي يحمل وجهاً دلالياً رمزياً إيحائياً على أن يقنعه كناقد جاد فيستطيع امساكه وتتبع آثاره حتى آخر نقطة توصله لما اعتقده ومشى إليه.

وأنت تقرأ عبد الرضا علي لا تشعر بأي ملل او ضجر كمن يقرأ بحثاً نقدياً بحتاً.. بل له لغة منسابة كماء.. رصينة برصانة اعتماده على المناهج البحثية والمعرفية.. مستفيداً بما يتمتع به من أرضيّة صلدة بُنيت وتتلمذتْ على أيدي كبار النقاد في العراق والعالم العربي .

فهنيئاً للنقد وللنقاد به إنساناً ومبدعاً خاض غمار الأدب بما أثرى المكتبة العربية من أطروحات وأبحاث.


0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *