زينب الرواحيّـة – قاصّة عمانيّـة
” في الخارج، يبدو العالم مضطربا بشدة.. تتسارع أحداثه باطراد عجيب نحو لا نهائيات التقدم المجهولة…
في عالمي المقتضب الصغير، أنا بحاجة إليك… لا تتركني وحيدة، فكم هي مرة وصعبة بدونك الحياة…
سيدي! هذه الروح وهذا القلب طوع أمرك… سخرني لخدمتك وأبقني في كنفك…
فأنا أحتاج إليك الآن، ودائماً…”
بهذه الخواطر الوجدانية، تكون مريم قد أنهت كتابة الصفحة الأخيرة من مذكرات العام الذي انصرم لتوه، مع دقات ساعة الحائط المعلنة انتصاف الليل.
بدأ عامٌ جديد، أتراه مشحونٌ بالمفاجآت كأعوامها السابقة؟
بقيت مستيقظة، ساهمة ترقب النجوم، تلك الدرر التي سطرت معها حكاية عشق أزلي، وصنعت منها عقدا فريدا ما تزال إحدى خرزاته مفقودة!
تتساءل… أين أضعتها؟ وأين تراني سأجدها؟
“مولاي! أسعد قلبي وأرشدني لحل هذا اللغز”
تتزاحم في خاطرها أفكارٌ كثيرة وتتصادم، تحلق دائماً في خيالات بعيدة.. تتذمر من ولادتها في عصر لا تحبه ولا يروقها، فعقول هذا الزمن قليلة وبعيدة. ترفل في رغد الحياة الناعمة، وهي في أعماقها تتمنى لو ولدت في قلب صحراء واسعة، أو رأس جبل بعيد.. حيث للفكر حرية مطلقة!
تبدو روحها ذابلة، تؤمن أنها لن تستطيع فعل أي شيء مميز ما لم تجد خرزة العقد المفقودة، هنا سيتوقف عقلها عن التفكير بإبداع، وسينتقل إلى وضع البساطة والسذاجة والروتين المريح!
في الصباح، بدت عيناها المرهقتان تتثائبان، فانهالت عليها أسئلة أمها كالعادة بقلق مفرط، أجابتها مريم مبتسمة:
– أنت تعلمين يا أمي أن أشباحا صغيرة كثيرة تعيش أسفل سريري، وتعلمين أيضا أنها تحتفل بصخب وتزعجني مع بداية كل عام جديد!
– كوني جادة معي يا ابنتي! لا زلتِ تختلقين مثل هذه القصص بعد ثمان عشرة سنة من بداية نطقك!
– ولكن “أنا الصغيرة” لا تزال تعيش في قلبي، إنها تأبى أن تكبر معي، فما أن عساي أفعل؟!
– أتمنى أن تروض الدراسة في الجامعة عقلك المشحون بالخيال!
– أضعتُ خرزة العقد الأخيرة يا أمي! يجب أن أرتحل الليلة لعالم سحيق كي أبحث عنها!
– دعيك من ذلك، أليس يوم غد هو يوم امتحان؟
– هذا جيد.. فكلما سافرت لزمن أبعد حصلت على درجة أعلى!
هنا دخلت نهى الصغرى – غالبا ما تقرأ مذكرات مريم خلسة – و أضافت بمرح: “إنها الفرضية رقم 10 في دفتر مذكرات مريم”.
امتزجت ضحكات الجميع برائحة خبزٍ ساخن.. بزمنٍ يمضي… وخطوات سريعة كلٌ نحو عمله!
***
انتهت مريم لتوها من التحضير لإمتحان الغد. وبدأت أشباح الخيال – كما تسميها – تطاردها أينما ذهبت، في كل ليلة تستغرق فيها بالدراسة والتركيز تلوح لها خيالات وظلال تتحرك بخفة متناهية.. إنها تعتقد بأن هذه الظلال المرعبة و اللامتوقعة، إنما هي أفكارها.. لربما يراها جميع الناس.. إنها ليست إلا أفكارا عظيمة أهملناها.. فتحررت من عقولنا بحثا عن الثأر!
خلدت بسعادة إلى سريرها فهذه الأشباح الصغيرة بداية لعوالم سرمدية جميلة، ستطفئ جميع الأنوار، وتغلق الستائر، هكذا تهيء المكان لخيالات كبيرة وعميقة جدا.
كان قصرا عاجيا عظيما، به من الأبواب والنوافذ ما لا تستطيع إحصائه. مشت عبر الدهاليز الملتفة والممرات الطويلة. صوت عذب يقترب منها ويبتعد، ورائحة بخور فريدة منتشرة في أرجاء المكان، أحجار وفسيفساء مصطفة بانسجام تام على الأعمدة والأبواب، ولوحات ضوئية عجيبة على أرضية مزخرفة بدقة لتتناسب وتتناغم مع الضوء المتسلل عبر نوافذ الزجاج الملونة.
يقودها الخيال إلى عرش الأميرة، وكل شيء هناك يتحدث عن جمال سرمدي لا مثيل له. إذ يزخرفه الخيال كيفما يشاء.
في قاعة العرش المحاطة بجمع من الناس كبير.. وقعت عيناها على عيني الأميرة..
– ما الذي أتى بالفتاة الغريبة إلى قصري؟ وكيف وصلت إلى هنا؟
– أيتها الأميرة، أضعت جزءا من كنزي وأتيت أبحث عنه في قصركم!
– وكيف علمتِ أنه هنا؟
– قادتني الأسطورة إلى الأسطورة!
– وهل نحن أسطورة؟ كلا! إننا حقيقة!
– ولكن علوم المستقبل المتقدمة لا تؤمن بوجودكم، لأنكم أقدم من أول حضارة سجلها تاريخنا
– هذه قسوة مضاعفة!
– لذا أكره التاريخ، أيتها الأميرة!
عمت الفوضى أرجاء المكان، استدارت مريم وهربت خلسة يقودها الخيال..
” كلنا متشابهون ولا تروقنا الحقائق”
***
مشت سريعا عبر الممرات لتصل إلى باحات واسعة وارفة الظلال، والصوت العذب لا يزال يطرب الخيال، ماذا تراه يكون؟ صوت لم تسمع مثله من قبل!
دخلت عبر باب مذهب كبير إلى مكتبة ممتدة ليس لها مثيل، فيها شيخ بالغ الشيب وقور..
– لم كل هذه العلوم ياسيدي؟ إنكم تندثرون ولن يستفيد أحد من إرثكم!
– ألأجل هذا يا بنية جئتِ؟
– لا ولكني أبحث عن كنز أضعته.
– إذن هي عقدة في حياتك! فكيف تركت قومك هناك؟
– يا سيدي الوقور جئتك من عصر المادة حيث تحطم الناس الأرض وتلهث خلف الذهب والحديد.
– ألا تسمعين هذا الصوت العذب؟
– بلى واحترت ما تراه يكون؟
– إنها قطع الذهب تعزف على وتر النهر.. إنه رنين الذهب يمتزج بدفء مع لحن الخرير!
– ومالي لا أرى الناس مقبلة عليه؟
– هنالك الكثير.. و ما خبر قومك أيضا؟
– لو عرفوا نهر الذهب لقامت عليه حروب! ولأجله سيقتل النساء والأطفال!
– أولا ينشدون السلام؟!
– إنه زمن يتغنى بأناشيد السلام بينما يصنع الأسلحة.
– ليس لي في ذلك الزمان مكان. لِمَ أقدم جهدي لزمن ستمحى حضارته الإسمنتية بعد بضع عقود؟
لم أنا هنا؟؟
– لأنك آمنت بوجودنا يوما.
– ولم أنا هناك؟
– لأنك وجدت من أجل عمل لن ينجزه غيرك في هذا الكون.
– ولكن التاريخ سوف لن يهتم بأمري كما فعل بكم.
– سواء أسجلنا التاريخ أم لا.. فنحن موجودون، صنعنا حضارتنا ونشرنا العلوم.
-علومًا ستندثر.
– لقد كنا هنا مذ كانت الأنهار تفيض ذهبًا، وأصبحتم هنا بعد أن صرتم تحطمون الجبال للحصول عليه. إن معرفتكم قامت على معارف أسلافكم الأوائل، إنها معارف لن يسطرها التاريخ ولن يشعر بها أحد لأنها ستنقل عبر العقول وعادات الشعوب، وستبقى الأسمى لأنها أساس كل حضارة.
مضى الشيخ الحكيم مشيرا لها بأن تعود للأميرة، فهنك ستجد كنزها… خرزة العقد الأخيرة!
– أيتها الأميرة.. طلب مني حكيمكم الوقور أن أعود إليك لآخذ كنزي.
– لن أعطيك ما جئت لأجله.. بل سأهبك قطعة كهرمان!
أمسكت بها مريم.. فإذا بقطعة ذهبية شفافة ولامعة، بداخلها فراشة محفوظة بدقة.
– قبل ملايين السنين بكت شجرة صنوبر فسقطت دموعها على فراشة عابرة، مرت مسرعة تحمل رسالة سلام بين مملكتين متناحرتين ستتفقان بعد حين على نفاق ومضض..
غرقت الفراشة في دموع الصنوبر، وبكت دموعا على دموع..لن يحل السلام!
ولكن ما فائدة السلام بين قلوب تنبذه وتتظاهر به بخبث!
رثت حالها كل الحشرات التي ستندثر بعد أيام، ولكن الفراشة والدموع تحجرتا بعد أمد قطعةً من الكهرمان لتسافر عبر ملايين السنين. توقف عندها الزمن، ليرسل لنا رسالة الحب والسلام.
كوني كفراشة الكهرمان، أوقفي الزمن برسالتك إلى هذه الحياة، سيحملها عبر تاريخه أو عبر عقول أجياله.
ظلت مريم تحت خدر هذا السحر. اقتربت منها الأميرة، وتعانقتا عناق الذات مع الروح، بحبٍ مطلق!
هنا عانقت الشمس كبد السماء، وانسجمت موسيقى الطبيعة العذبة مع دفئها وسطوعها.. كم غمرت السعادة قلبها بهذا العناق الأزلي.. تسللت إلى أذنيها أصوات أناس يتهامسون في نشاط وحركة، وطارت من حولهما أسراب فراشات بديعة..
لم يكن الإنسان بدائيا قط… لقد أحب الجمال وعشق الإنجاز!
ما إن رفعت مريم عن وجهها الغطاء.. حتى غرقت في ظلام الغرفة وصمتها المدقع، عادت عبر أزمنة سحيقة ومعها الكنز!
أنارت الضوء، ثم توضأت وصلّت بسعادة وخشوع..
“مولاي.. لك شكري! ففي كل مرة ترشدني إلى الصواب. إن الحكمة مخبوءة في عقولنا.. فلنفكر بصمت فقط وستنجلي، يا سيدي لا تباعدني فإني غارقة في بحور حبك”
فتحت الصفحة الأولى من دفتر مذكرات العام الجديد وسطرت:
“عزيزتي أيتها الأميرة…كم أنت جميلة بعمق!
ها قد امتدت بيننا مسافات الفكر والزمان.. أنت يا أميرتي اختلطتِ بالخيال.. وأنا هنا أتنفس الحياة، ولكن كلانا يعيش حياة واحدة فقط.. لن أتلاشى هكذا دون أثر.. سأكون فراشة كهرمان.. سأبقى مشرقة، ولن تطفئ الأيام بريق قلبي. هل تعلمين ما تعني لي السعادة الآن؟! إنها إدراكي بأني وجدت في هذا العالم والزمان.. من أجل هدف لن ينجزه أحد غيري!
كل الحب والسلام…
إلى أن نلتقي!”